من القواعد البديهية المعروفة أن الإبداع الأدبي لا وطن له، كذلك الإبداع الثقافي والفني والتشكيلي والرياضي والإبداع في كافة المهارات، ولكن هناك فئة من الناس ضالة الهوى تهوى التعصب في كل شيء حتى الأدب، فتراهم إما متعصبين لأدبهم جغرافياً كأن يقولون مثلاً: أدب تونسي أو مغربي أو سوري، وإما أن تراهم متعصبين بصورة أخرى فيقولون: أدب عربي وأدب أجنبي ..
وهم في الحالتين يعتبرون أدبهم هو الأدب الشامل والكامل المنزه عن كل نقص، يتعصبون له ويرفضون ما عداه، حتى أولئك الذين يتعصبون للأدب فتراهم متعصبين تعصباً أعمى إلى الثقافة العربية، ويعترونها ثقافة شاملة كاملة منزهة عن أي هوى، ويرفضون ويعادون ما عداها من الآداب والثقافات، رغم أن التراث الأدبي العربي – بصراحة- يحتوي في بعض عصوره على أشياء لا تشرف على الصعيدين الأخلاقي والإبداعي أيضاً.
والحقيقة التي يجب أن يعلمها هؤلاء وهؤلاء أن (الإبداع) مصطلح إنساني عام لصيق بالإنسان في أي زمان ومكان، والعقل البشري قادر على الإبداع مهما كان أصله وفصله ولونه، وهذا التراث الإنساني العالمي الكبير الذي تملكه البشرية في شتى المجالات لم يصنعه فرد أو شعب أو حتى أمة ولكن صنعه "الإنسان" في كافة بقاع المعمورة، من الممكن أن يكون لشعب معين السبق في إنجازات حضارية معينة لعوامل معينة، ولكن هذا لا يمنع أن لكل شعب حضارة، وكل الشعوب تتسابق نحو الكمال.
وعندما يبدع الأديب تنتهي مهمته .. ويترك إبداعه شاهداً على إبداع إنساني ما، والدليل على ذلك أننا الآن نقرأ للمتنبي والبحتري أو حتى الفونس دولا مارتين وهوجو ولا نعرف جنسياتهم أو مواطنهم الحقيقية، ولا نعرف ذلك إلا بالرجوع إلى كتب التاريخ الأدبي، إذاً فالإبداع هو المحك الوحيد وجنسية الأديب هنا ليست مسوغاً للحكم عليه، وما يعنيني إذا كان هذا الأديب من جزر القمر أو بلاد الواق واق ؟!
إن علاقة القارئ والنتاج الأدبي علاقة تأثير وتأثير مباشرة، لا تدخل فيها أي عوامل سوى مستوى الإبداع نفسه وقوة تأثيره.
على الصعيد الآخر تظل ظاهرة التعصب القومي في الأدب من أكثر الظواهر شيوعاً فمع أهمية اعتزاز العربي بثقافته، إلا أنه لا يجب أن يؤدي به هذا التعصب إلى رفض ثقافات الآخرين وانعزاله عنها، أن أوسع العصور الأدبية ازدهاراً تلك العصور التي انفتح فيها الأدب العربي على الثقافات الأخرى ونهل منها وتأثر بها وأثر فيها، والأدب العربي نفسه مدين بالكثير إلى الثقافات الأجنبية في عصوره المختلفة، وهذا ولا يعيبه فالاحتكاك بالآخر والاستفادة منه هما جوهر التثاقف الحقيقي.
إنني أتعجب عندما أقرأ مصطلحات (التغريب) و(الحداثة) في مواضع الاتهام حيث يعتبرها البعض تهمة ونقيصة تستوجبان الانتقاد، بينما نرى (المستشرقين) الذين قاموا بدور هام في التعريف بالآداب العربية وساهموا – بقدر ما – في إثراء الفكر العربي لم يتهمهم بنو جلدتهم بالخيانة أو "الاستعراب" ؟!
والغريب أننا نحن الذين نظرنا إليهم بالريبة والامتعاض، وشكك بعضنا في نواياهم واعتبرهم بعضنا جواسيس ومغرضين هدفهم هدم الثقافة العربية، وكأن وسائل التجسس العالمية انقرضت حتى أنه لم يتبق ألا التجسس الأدبي وسيلة للصراع !!
وإذا كان التعصب عموماً هو آفة العرب والسلبية الرئيسية لتي تعوق اتفاقهم وتوحدهم، فلا يجب أن يصل هذا التعصب للفنون والثقافات، بل إن الوحدة الثقافية أدعى وأهم . لأن الثقافات إذا توحدت توحدت الشعوب، والشعوب إذا توحدت توحدت الدول وهو حلمنا الكبير.
إنني أتمنى أن تختفي ظاهرة التعصب الأدبي، ولتكن البداية بإلغاء عملية (تجنيس الأدب) من صحافتنا ودراستنا وكتبنا، فلا نقول الشاعر المصري أو الشاعر السوري أو الشاعر الفرنسي، ولكن نقول الشاعر فقط.
كما يجب علينا كعرب تنشيط الدراسات المقارنة والانفتاح على الآخر لأن هذا هو الطريق الأساسي لتطور الفنون والآداب وازدهارها.
يجب أن نتعامل مع الأدب كمنتج إنساني عام حتى لا نكون كالنعامة التي دفنت رأسها في الرمال، فحرمت نفسها من شمس المعرفة الإنسانية !.