انتهيت لتوي من قراءة كتاب (رجوع الشيخ إلى صباه) ترجمة المولى أحمد بن سليم الشهير بابن كمال باشا المتوفي سنة 940 هـ، وهو حسب علمي كتاب ممنوع تداوله نظراً لأنه – وحسب تصنيف مانعيه – من الكتب التراثية التي تحتوي على حكايات وأخبار اتخذت الأسلوب الصريح المكشوف فجاءت بعض فصولها خادشة للحياء، وقد كان إطلاعي عليه هدفه البحث.
يذكر المؤلف في مقدمته – كعادة كتاب ذاك الزمن – الدوافع التي دفعته لتأليف كتابه، وما احتواه من فصول وموضوعات، والمنهج الذي اتبعه فيقول:
(لم أقصد به أن أمتع الذي يرتكب المعاصي بل قصدت إعانة من قصرت شهوته على بلوغ أمنيته في الحلال الذي هو سبب لعمارة الدنيا) ويقترب أكثر في تحديد دوافعه فيقول :
(إنني لما رأيت الشهوات كلها منوطة بأسماء الباه وداعية للجماع ورأيت أهل الأقدار وأرباب الأموال ورؤساء أهل كل بلد في عصرنا هذا وما تقدمه من الأعصار والأزمان همومهم مصروفة إلى معاشرة النسوان، وأحوالهم متفرقة في بيوت القيان، ولم أر أحداً منهم يخلو من عشق لمغنية واستهتار بجارية وغرام بفاحشة، علمت أن معرفتهم بمن صرفت إليه شهواتهم وتبعتهم نفوسهم مما يجزل نفعه وتعظيم فائدته).
ويتحدث بعد ذلك عن أقسام كتابه فيقول:
(قسمته إلى قسمين، قسم يشتمل على اثني عشر باباً تتعلق بأسرار الرجال وما يقويهم على الباه من الأدوية والأغذية – والثاني يشتمل على عدة أبواب تتعلق بأسرار النساء وما يناسبهن من الزينة والخضابات، وما يخضب به البدن وما يسمنه، وما يطول الشعر ويسوده، وما الذي يستجلبن به مودات الرجال، والحكايات التي نقلت عنهن في أمر الباه مما يحرك شهوة السامع لها، وما قيل فيهن من زيادة الشهوة وقلتها وما نقل عنهن من رقة الألفاظ عند الجماع مما يزيد في اللذة ويقوي الشهوة).
ويدفع المؤلف سلفاً التهم التي تسند إليه فيقول:
(لم أقصد بتأليفه كثرة الفساد ولا طلب الإثم ولا إعانة المتمتع الذي يرتكب المعاصي ويستحل ما حرم الله تعالى، بل قصدت به إعانة من قصرت شهوته على بلوغ نيته في الحلال الذي هو سبب لعمارة الدنيا بكثرة النسل).
وحتى تتضح الصورة لننظر معاً إلى فهرست الكتاب لنتعرف على موضوعاته أملاً أن لا تخدش مجرد العناوين حياء القارئ:
(مقدمة – في ذكر مزاج الإحليل – في ذكر مزاج الأنثى – في ذكر الضرر الذي يحصل من الإفراط في الباه – في ملاحق الضرر الحادث عن الإفراط في الجماع قبل أن يعظم ويشتد – فيما يجب أن يستعمل بعد النكاح – في الأوقات التي يستحب أو يكره فيها الجماع والنكاح – فيما يطيل الذكر ويغلظه – في تركيب الأدوية الملذة للجماع – في ذكر الأدوية المعينة على الحمل – في معرفة الأدوية المانعة من الحبل – في الخواص المعينة على الباه – في كتابة الأعمال الزائدة في الباه – في تقسيم أغراض الناس في محبتهم وعشقهم – النساء وزينتهن – في معرفة ما يكون في النساء من الأوصاف الجميلة في أعضائهن – العلامات التي يستدل بها على الشهوة وكثرتها عند النساء – الأدوية المحسنة للبول والبشرة – الأدوية التي تسرع إنبات الشعر وتطوله والخضابات التي تحسن لونه – في خضاب الكف وقموع الأنامل – الأدوية التي تطيب رائحة البدن والثياب من المرأة الجاذبة لمودة الرجال – في صفة دواء للرائحة المنتنة في جميع الجسد وفي أصول الفخدين وغيرهما – الأدوية التي تقوي شفار عنق الرحم حتى لا يناله ضعف ولا عناء قط – الأدوية التي تمنع ميلان عنق الرحم إلى أحد الجانبين وتثنيه وتصلبه – الأدوية التي تزيد في مني المرأة وتقوي ظهرها وتفرز منيها – في ذكر الأدوية التي تحبب السحاق إلى النساء – في معرفة الأدوية التي تضيق فروج النساء وتسخنهن وتجفف رطوبتهن – الأدوية التي تطيب رائحة فرج المرأة حتى أن كل من دنا منها أحب العودة إليها والخلو معها – في معرفة الأدوية التي تزيد شهوة النساء إلى الجماع – في معرفة الأدوية التي إذا استعملها النساء لن ينبت على كراسي أرحامهن شعر – في ذكر الأدوية التي توضع على الرحم فلا يعود ينبت الشعر أبداً ويبقى الموضع ناعماً رطباً – في ذكر كيفية أنواع الجماع وما تجلب بصفته الشهوة وينبه الحرارة الغزيرة "في القعود، في الاضطجاع، في الانبطاح، في الانحناء، في القيام"، في الحيل على الباه – في الحكايات – في ذكر من وطأ النساء في أدبارهن – حكاية لطيفة – في شهوة النساء للنكاح – في القوادة والرسول – في قواعد آداب النكاح – في المحادثة والقبل والمزاح ووصايا النساء لبناتهن وما يصنعن مع الرجال وذكر غنج النساء وحكايات تتعلق بذلك- في غرائز النساء).
ويفجر هذا الكتاب قضية من أهم القضايا وهي قضية التراث العربي وما يحتويه في بعض نتاجه من أخبار وأعمال شعرية وحكايات صريحة شاذة وماجنة.
وهي قضية انقسمت حولها الآراء، فهناك رأي يرى وجوب التعامل مع هذه النوعية من التراث بصراحة ووضوح وينادي بعدم منعها باعتبارها تقدم لنا شهادات أدبية واقعية عن أدبنا العربي، والرأي الآخر يرى وجوب منع هذه النوعية من التراث نظراً لخدشها الحياء بما تحتويه من خلاعة ومجون.
ولعلنا نذكر المشكلة التي حدثت في الثمانينات حين تقدم أحد الأشخاص ببلاغ إلى مباحث الآداب قال فيه أنه وجد في الأسواق كتاباً به ألفاظ مخلة بالآداب، وكان الكتاب الذي يقصده هو كتاب (ألف ليلة وليلة)، في طبعة الناشر محمد على صبيح، وقضت محكمة أول درجة بمصادرة الكتاب وحبس الناشر، لكن محكمة الاستئناف ألغت هذا الحكم وأفرجت عن الكتاب.
وعلى الرغم من دراستنا لهذه القضية عندما كنا طلاباً في قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب في إطار دراستنا لظاهرة المجون في الشعر العربي، إلا أنها المرة الأولى التي نطلع فيها على مؤلف متكامل من هذه المؤلفات للبحث والتحليل.
أول انطباع وصلني بعد انتهائي من قراءة هذا الكتاب أننا نحن العرب – عرب هذا الزمن – متأدبون جداً بالمقارنة بالعصور القديمة، وعلى الرغم من أن عصرنا الحالي تنتشر به صور شتى من الفواحش. إلا أنها برأيي لم تصل إلى الحد الذي وصلت إليه عند قدماء العرب، وربما مرد ذلك أن الإنسان بمرور الأزمنة والسنوات يرتقي في الأفكار والسلوك وهذه طبيعة الحياة، وبالتالي فإن الأجيال القادمة ستكون أكثر تأدباً ورقياً في الأفكار والسلوك، فالمطالع للكتاب سيفاجأ ضمن فصوله وأبوابه وحكاياته بصور عديدة ومفجعة للمجون والانحلال والشذوذ بشكل لا يستطيع العقل تصوره.
وربما يرجع ذلك إلى أن العصر الذي صدر به الكتاب كان – وكما أشار المؤلف – عصراً مليئاً بالفواحش، ولذلك أيضاً ربما نقدر الظروف والملابسات التي دعت المؤلف إلى وضع كتابه وذلك من منظور العصر نفسه وليس من منظورنا نحن، فهذا الأسلوب في طرح ومعالجة الموضوعات كان معتاداً في العصور القديمة، ولكننا إذا حكمنا منظورنا المعاصر في الحكم على دوافع المؤلف سنرفضها لا شك رفضاً قاطعاً.
فإذا نظرنا إلى دوافع المؤلف لتأليف كتابه بالمنظور الاجتماعي سنجدها دوافع هشة يحاول بها تبرير الإثم، فالكتاب ليس موجهاً لمن قصرت شهوته ليعينه على بلوغ أمنيته في الحلال فقط، وإنما موجه لجميع القراء بمختلف نواياهم ونفوسهم الأمارة بالسوء، وفي الوقت الذي سيفيد هذه النوعية التي قصدها المؤلف في الحلال، ستستفيد منه أيضاً الفئة الأخرى في الحرم، وبذلك يكون قد أساء في وقت يدعي فيه الإفادة، تماماً كمخترع البندقية الذي
كان يظن في البداية أنه يخترعها لقتال الخارجين عن القانون ولكن الحقيقة أنه اخترعها للجميع أشراراً وطيبين للقائمين على القانون والخارجين عليه.
ولو كان المؤلف قصر كتابه على كل ما يدخل تحت إطار المشروع لكان أفلح، ولكنه طرح أشكالاً وأصنافاً عدة للخلاعة والمجون بشكل يعين الفاسد على فسادة ولا تفيد الملتزم معرفته. فضلاً على أن كتابه يحتوي على أشياء غير مقبولة شرعاً في الأساس مثل التعاويذ التي ذكرها والتي تشكل استعانة بالجن والشياطين مما يتعارض مع الدين.
ولنصل الآن إلى لب الموضوع ونتساءل عما نفعله إزاء هذه النوعية من التراث:
هل نمنعها ونصادرها فنحرم أدبنا العربي من جوانب إيجابية ومعرفية عديدة تحتويها هذه الكتب، وهل نمنع ضمن هذه الكتب ذخائر مثل (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني و(ألف ليلة وليلة)، و(يتيمة الدهر) وعدد كبير من دواوين الشعراء القدامى كالمتنبي وابن الرومي وأبي نواس .. وغيرها من الكتب الهامة في تراثنا الأدبي والتي احتوت أيضاً على أجزاء عديدة صريحة ومكشوفة؟, وهناك كتب بعينها وضعت بكاملها عن الجنس والفواحش التي شهدتها العصور القديمة مثل كتاب (رجوع الشيخ إلى صباه) – موضوع حديثنا – وكتاب آخر لم يسم مؤلفه عنوانه (رشيد اللبيب في معاشرة الحبيب).
هل نتركها مباحة لكل قارئ فلا نأمن بذلك خطرها في خدش الحياء وإشاعة الفاحشة وإثارة الغرائز المكبوتة لدى القارئ بمختلف أعماره؟
لا شك أنها معضلة، فلو اخترنا المنع نكون بذلك – برغم اختلاف القياس – كمن يرفض الشمس لأنها عندما تشتد تصيب الإنسان وتقتله، ولو أبحنا سنكون بذلك قد أسأنا إلى المجتمع في وقت نحرص فيه على منع الصور الإباحية والأفلام الفاضحة بهدف الحفاظ على القيم.
والحل في رأيي منع هذا النوع من التراث، وقصر الإطلاع عليه على الباحثين والأدباء، في الوقت نفسه يتم تنقيح هذه الكتب التراثية بطريقة بحثية وأدبية معينة يتم فيها حذف أو تعديل الأجزاء الفاضحة، واستبدال المسميات المباشرة بمترادفات أو نقاط فنجنب القارئ العام خدش الحياء أو الإثارة أو التأثر بالفاحشة.
وهذا بالطبع يجب أن يتم من خلال مشروع قومي وعرب جماعي وبأسلوب علمي دقيق تراعى فيه هوية النص الأساسية وعدم تغيير ملامحه الأصلية.
من ناحية أخرى يجب الاستفادة العلمية مما تحويه هذه الكتب من معلومات طبية وذلك بإخضاع ما تحتويه من وصفات عشبية وغيرها للتجارب الطبية للتأكد من جدواها واستخدام ما يتفق منها مع الشريعة، كذلك يمكن الاستفادة منها في الثقافة الجنسية المشروعة.
أخيراً يجب أن نعي الدرس ونعلم جيداً أن ما نكتبه الآن سيقف في المستقبل أمام محكمة الأجيال، لتحكم علينا الأجيال القادمة كما نحن نحاكم اليوم الأجيال السابقة، فهل سترانا الأجيال القادمة متأدبين أم لا ؟، حقيقة لست أدري؟