القاهرة: الملحق الثقافي لجريدة "الحرية" التونسية
ظاهرة السرقات الأدبية قديمة عرفها الأدب العربي في مختلف الأزمنة، أيضا شهدتها الثقافات العالمية، ، وقد ناقشها النقاد الأدبيون، وحللوا دوافعها، وأشكالها، ولكن هذا لم يمنع الظاهرة، حتى أنه قيل أن "السرقة الأدبية لم ينج منها شاعر".
في هذا اللقاء نلتقي مع شاعر وصحافي مصري له تجربة فريدة في الكشف عن السرقات الأدبية، قلما أن نجد مثلها، .. وهو الستاذ الأمير كمال فرج الذي امتلك الفراسة والمتابعة والوعي مما مكنه من اكتشاف سرقات أدبية عدة، والكتابة عنها في سلسلة تحقيقات كان لها صدى كبيرا، حتى أن إحدى الصحف المصرية لقبته بـ "شرلوك هولمز السرقات الأدبية".
حول هذه التجربة الجديدة التقينا معه في هذا الحديث :
الذاكرة القوية طريق إلى "السرقات الأدبية"
منذ متى بدأت اكتشافاتك للسرقات الأدبية، وماهي ملابسات ذلك؟
ـ كانت أول سرقة شعرية اكتشفتها عام 1985 عندما وجدت قصيدة منشورة في مجلة "الشباب" باسم "إيمان السيد ياسين"، وبعد فترة وفي مطبوعة أخرى فوجئت بها منشورة باسم "حسن غريب أحمد"، فاحتفظت بالقصيدتين، ومع المتابعة وميزة حفظي للأشياء، وعدم نسياني لشيء قرأته اكتشفت سرقة أخرى بنفس الطريقة، وهي قصيدة للشاعر مصطفى عبدالرحمن بعنوان "غاب فجري" منشورة بمجلة "العربي" ، ثم نشرت بعد ذلك في مجلة "الشباب" باسم "صبري توفيق أمين.
ثم سرقة ثالثة وهي قصيدة بعنوان "إذا ذكر الحبيب" ألقاها أحد الشعراء في مهرجان شعري، اكتشفت أنا قصيدة قديمة تلقى في الاحتفالات الدينية، وهي لأحد أئمة الصوفية، فبحثت عن أصل مطبوع لهذه القصيدة تكون دليلا فوجدته، وهو كتاب قديم.
ثم اكتشفت السرقة الرابعة، وكانت قصيدة مدونة بخط سارقها اكتشفت أنها منشورة بالنص في ديوان "رحيل" للشاعر عبدالجواد طايل، وهكذا توفرت لدي أربع سرقات بالأدلة، وعندما تجمعت لدي هذه الوقائع قررت أن أكتب عنها، وقد كان ، فكان تحقيقي الأول حول هذا الموضوع في جريدة "صوت الشباب".
سرقات واضحة
ـ ماحجم السرقات الشعرية التي اكتشفتها ؟
ـ جميع السرقات التي اكتشفتها سرقات واضحة وبالنص،وفيها يلجأ السارق إلى انتحال قصيدة كاملة لشاعر آخر، ويضع اسمه عليها، وفي حالات أخرى يسرق الشاعر جزءا كبيرا من القصيدة، فهو لايسرق بيتا أو بيتين، ولا يحاول إخفاء سرقته، وإنما يسرق أبياتا كاملة، وهنا تكمن فداحة السرقة وجرأتها.
الدهشة والاستغراب
ـ كيف كان صدى هذه الوقائع التي توصلت إليها ؟
ـ سببت هذه الوقائع الدهشة، والاستغراب، وفي تحقيقي الأول اكتفيت بتوضيح السرقات وتنبيه الساحة إليها، ولكن بعد وقت وجيز اكتشفت سرقة أخرىلقصيدة بعنوان "من القلب" للشاعر الراحل صالح جودت منشورة في ديوانه "الله والنيل والحب" فوجئت بها منشورة في إحدى النشرات الطلابية، باسم "أسامة اليمني" فاضطررت للكتابة مرة أخرى لكشف السرقتين.
طريق الصدفة
ـ هل كنت تتابع بغرض كشف السرقة ؟
ـ أبدا لم تكن هناك قصدية في الموضوع، فقد اكتشفت هذه السرقات بطريقة عشوائية عن طريق الصدفة. فأنا أصلا بحكم اهتماماتي أتابع الصحافة الأدبية وأحاول متابعة جزء من الإصدارات الأدبية. وكما قلن فإن اكتشافي كان يتم عن طريق الصدفة عندما أقرأ عملا وأتذكر أنني قرأته فيما مضى، فأعود إلى مصادري لأبحث عن العمل الأول، لأكشفت السرقة وهكذا..
أكبر سرقة
ـ ماهي أكبر سرقة اكتشفتها؟
ـ أكبر سرقة اكتشفتها كانت سرقة ديوان شعري كامل بعنوان "صدى الألحان" للشاعر إبراهيم هاشم فلالي،سرق جزءا كبيرا منه شاعر شاب اسمه "أشرف الفضالي"، وأصدره في ديوان باسمه بعنوان "نبضات قلب"، وحصل به على عدة جوائز. وكانت مفاجأة كبيرة لي أن أكتشف سرقة بهذا الحجم.
ولكني ترددت في الكتابة عن هذه السرقة في البداية، والسبب هو أن الناقد الذي كتب مقدمه الديوان المسروق "نبضات قلب" كان أحد كبار النقاد وهو الدكتور محمد مصطفى هدارة عميد كلية الآداب في الأسكندرية، وكان في الوقت نفسه عميدا لكلية الآداب بالكلية التي أدرس بها وكنت حينئذ في الفرقة الثالثة.
وخشيت أن تسبب كتابتي عن هذه السرقة الفادحة حرجا للعميد، ويعتبر ذلك إهانة، فيؤثر ذلك على مستقبلي. وبعد تفكير طويل ومعارضة من الأهل لنشري هذا الموضوع، قررت الكتابة وليكن ما يكون. وقلت لنفسي حينها أنه لو أصابني ضرر من جراء ما أكتبه، فإن ذلك سيكون شرفا لي.
وكتبت موضوعا عن هذه السرقة نشر بعنوان "أضبط سرقة أدبية " في "جريدة الجمهورية"، وكان للموضوع صدى كبيرا، وكانت المشكلة ـ كما أشرت ـ أن مقدم الديوان المسروق وهو أحد كبار النقاد لم يفطن بتاريخه الأدبي للسرقة ، وراح ـ في مقدمته ـ يكيل المدح للسارق ، ويشيد بأسلوبه الأدبي.
المشكلة الثانية أن الموضوع نشر مرة خرى بجريدة "صوت العرب" وأضاف مقتطفات من النصوص المسروقة والمسروق منها، وبعناوين أكثر إثارة منها "شاعر يسرق ديوانا كاملا ويقدمه ناقد كبير". فزاد خوفي من انتقام العميد، ولكن الموضوع مر بسلام والحمد لله.
سرقة طريفة
ـ ما أغرب السرقات التي قابلتك ؟
ـ أطرف السرقات وليس أغربها كانت سرقة إحدى قصائدي، وهي "لاتظلميني"، المنشورة في جريدة "المساء" واكتشافها حدث عندما جاءني أحد الأصدقاء وهو الشاعر محمد أبوشادي، ممسكا بيده شريط كاسيت معلنا عن مفاجأة وقال أنه عندما كان يستمع إلى برنامج "مسرح المنوعات" الذي يقدمه المذيع علي فايق زغلول بإذاعة البرنامج العام، فوجأ بقصيدة من قصائدي يلقيها أحد الأشخاص وينسبها لنفسه، فسارع إلى تسجيلها ، فلحق الجزء الأخير منها، وأسمعني إياه، فلاحظت أن هذا الجزء ليس به اسم السارق، وبذلك لاتعد دليلا فحزنت، ولكن سرعان ما سعدت عندما علمت أن البرنامج يعاد مرة أخرى في يوم آخر من الأسبوع، وكان أن سجلت الحلقة كاملة، وبها اسم السارق وهو "ممدوح شعبان إبراهيم".
والطريف أنه حصل على ججائزة البرنامج وقدرها عشرة جنيهات، وبذلك أصبح لدي دليلا على الواقعة فكتبت موضوعا نشر بجريدة "الجمهورية" بعنوان "اضبط كشف عن بعض المسروقات الأدبية فسرقوا قصائده"، والغريب أن هذه القصيدة سرقت مرة أخرى عندما فوجئت بأحد الأشخاص يعلقها في مجلة حائطية بإحدى الكليات باسمه، وعندما طلبت مقابلته وواجهته لم ينكر، وعلل ذلك بإعجابه بها.
حملة هجومية
ـ ذكرت لي أن هذه التحقيقات سببت لك مشاكل معينة .. ماهي ؟
ـ أثارت هذه التحقيقات بعض المشاكل، وقد كنت أتوقع هجوما مضادا من السارقين ومحاولات للتكذيب، لذلك كنت حريصا على وجود الأصول المنشورة الدالة على الوقائع. حرصت أيضا على نشر الواقعة أمام القاريء، دون تدخل مني في تحديد السارق، رغم أني بالفراسة والدلائل كنت أحدده، ليست أسبقية النشر هي الدليل، وإنما أمور أخرى بحثية، يمكن أن تكون دليلا، والسارق دائما يترك وراءه دليلا.
أما عن المشاكل فقد تعرضت لحملة هجومية من بعض السارقين الذين لم ترق لهم لهم اكتشافاتي فأخذوا في الكتابة للصحف برسائل تشهيرية، بل حاولوا أن يلفقوا لي أنا سرقة شعرية، وأصبحت من حين لآخر أقرأ تطاولا علي.
ـ كيف تكون أسبقية نشر القصيدة ليست دليلا على نسبتها لشخص ؟.
ـ نشر قصيدة باسم شخص أولا لا يمكن أن يكون دليلا على نسبتها له، فربما يكون السارق قد تحصل عليها من صاحبها أو من أي مصدر مسموع ونشرها باسمه قبل أن ينشرها صاحبها الأصلي، وبذلك تكون أسبقية النشر ليست دليلا على الملكية.
أيضا فإن بعض ضعاف النفوس يمكنهم إذا اتبعوا هذه الطريقة تشويه سمعة الآخرين بنشر أعمالهم غير المنشورة بأسمائهم والادعاء عليهم بالسرقة. يؤكد لك حالة صادفتها ، وفيها اطلع أحد سارقي القصص على تحقيقاتي وتوقع ـ هكذا أتصور ـ أن يصل إليه أحد ويفضح سرقته، فما كان منه إلا أن كتب موضوعا في إحدى الصحف ، يدعي فيه أنه هو المسروق، وأن صاحب النص الأصلي وهو القاص سمير رمزي المنزلاوي هو السارق.
وياله من موقف مؤسف عندما ينشر الصحفي المسؤول هذا الاتهام الكاذب، فيجد المسروق نفسه سارقا.
والطريف أن السارق المدعي في موضوعه كان يقلد أسلوبي في تحقيقاتي عن السرقات الأدبية، وكان ذلك واضحا جدا من بعض الأساليب والتراكيب بل والجمل.
ـ ماهي الأمور التي يمكن لأن تكون دليلا على السارق ؟
ـ على سبيل المثال في القصيدة الخاص بي التي سرقت، السارق خذها من جريدة "المساء" وكانت الجريدة قد نشرت أخطاء مطبعية سببت خللا في وزن بعض المواضغ. وعندما جاء السارق سرقها بنفس أخطائها المطبعية، فكان ذلك دليلا على أنه أخذها من جريدة "المساء". فضلا على ذلك أن قصيدتي كانت منشورة في "المساء" قبل الواقعة بسنتين.
ومن الأساليب التي اشتخدمتها لتحديد السارق البحث وكان ذلك في واقعة سرقة الديوان الكامل ، فنظرا لأن الديوان المسروق منه لم يكن يحمل تاريخا للنشر أو أي معلومة عن الشاعر، فقد نظرت للديوان طويلا، واستنبطت منه بعض الشواهد منها القاموس اللفظي للشاعر، وتواريخ كتابة القصائد، وبعض الملاحظات الأخرى التي أعطتني دليلا على ان الشاعر حجازي وأن الديزان كان صادرا عن مكتبة مصر بالقاهرة، واستنتجت أيضا أن الديوان صدر أوائل الخمسينيات.
واستخدمت نفس الاسلوب في معرفة السارق، فبالرجوع إلى تواريخ القصائد ي الديزان الأصلي، وعمر الشاعر الآخر المشتبه في السرقة اكتشفت أن الشاعر الشاب هو السارق لاشك ، لأنه لايعقل أن يكون قد كتب هذه القصائد قبل أن يولد.
ـ هل هل ستواصل هذه الاكتشافات ..؟
ـ كما قلت لا أتعمداكتشاف السرقة، فالأمر يأتي بالمصادفة، ولو تفرغت لهذه القضية لاكتشفت العديد من الوقائع، وهذه التحقيقات التي كتبتها كانت عفوية في مرحلة البداية .
والآن أنا مشغول بقضايا أهم على صعيد الفكر والإبداع، وهذا لايمنع أنه إذا اكتشفت سرقة موثقة من الكتابة عنها وفضحها.
التوعية والمتابعة
ـ ماهي الحلول التي تراها لهذه الظاهرة؟
ـ الحلول كثيرة طرحت بعضها في تحقيقاتي، في البداية يجب التوعية بالمفهوم الحقيقي للسرقة الشعرية، فهناك من يظن أن أي تشابه في معني أو تركيبة شعرية سرقة، وهذا بالطبع خطأ، لأن السرقة لا تكون إلا في المعنى المبتكر ، لا في التراكيب العادية التي يشترك فيها الجميع .
وكما قال الجرجاني "المعاني والألفاظ مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي، أما السرقة فلا تكون إلا في المعنى المبتكر الجديد.
والمشكلة عدم وجود الوعي بهذا المفهوم، لذا فإن على النقاد التوعية بهذه الأمور حتى لا تكون السرقة وسيلة للتشهير والتلاسن ومجالا للصراعات الشخصية. من ناحية أخرى فإن على المطبوعات المختلفة أن تضع قواعد جديدة للنش بها تتضمن التوثق من اسم الشخص المتعامل مع المطبوعة أو القاريء الذي تنشر له، لتضمن مسؤوليته عما ينشر.
أيضا فإن بعض الاهتمام والعناية من الأخوة المشرفين على الصحافة الأدبية يمكن أن يحد من هذه الظاهرة، فجميع الزقائع التي اكتشفتها لم اكتشفها بالسحر أـو الشعوذة، وإنما فقط بالمتابعة العادية.
أيضا يمكن لاتحادات الكتاب والجهات الأدبية إنشاء جهات لتوثيق الأعمال الأدبية يوثق بها الأدباء أعمالهم، ويودعونها بها ويحصلون على ختم توثيق يكون مرجعا لإثبات ملكياتهم الأدبية إذا ماتعرضت أعمالهم للسرقة.
وعلى صعيد الإبداع قالمطلوب إعادة النظر في مسميات "الاقتباس" و"التضمين" و"المعارضة الشعرية" لأنني أعتقد أن قواعدهامازالت غير محددة، مما يجعلها بابا خلفيا للسرقة والانتحال. على سبيل المثالقرأت لشاعرنا الكبير أمل دنقل إحدى قصائده تقول " إني لأفتح عيني حين أفتحها .. على كثير ولكن لا أرى أحدا" وأعجبت جدا بهذا البيت. ورغم أن أمل قوسها في إشارة إلى اقتباسها. إلا أنني كنت أتوق لمعرفة المبدع الحقيقي لهذا البيت، حتى مرت السنوات لأعرف أنه دعبل الخزاعي، فلماذا إذن لايذكر الشاعر اسم صاحب البيت المقتبس في الهامش؟.. وهكذا أمور كثيرا تحتاج إلى إعادة نظر.