عبد الواحد النبوى أستاذ التاريخ، ورئيس دار الوثائق القومية، ووزير الثقافة، وغيرها من ألقاب تغوص بصاحبها فى بحور المعرفة والمجهول . مجهول لا يعلمه غالبية الشعب المصرى. نتيجة صحوة من اللامبالاة والتخلف. عشنا فيها سنين طويلة. مما أدى إلى الانحدار الثقافى بمفهومه العام.
قد يظن البعض أن وزارة الثقافة من وزارات الدرجة الثالثة، ولا يعلم الكثيرون أنها من أهم الوزارات على الإطلاق، لأن من مفرداتها الأولى هى تشكيل وجدان الشعب.
ليس هناك الآن مجال للتحدث عن قطاعات كثيرة تخص الثقافة والحروب الدائرة بين رؤساء تلك القطاعات، والتى من سلبيات تلك الوزارة أنها مشكلة على هيئة قطاعات . ولكن تعالى أحكى لك قصة من قصص يوميات طفل شقى فى الأرياف.
تلك القصة هى التى علمتنى اليوم كيف أكتب، وكيف تشكل الوجدان، فى يوم ما من ليالى الصيف، وفى قرية بكر لم تندسها المدنيه بعد، قد تكون أنت بنفسك عشت تلك التجربة، وقد تكون وقتها معنا، فى تلك الليلة وبعد العصر تقريبا كانت تحط فى القرية عربة غريبة لم نرها من قبل من شكلها وإمكانياتها .
وقتها كنت أمضى هذا الصيف بالقرية طفلا صغيرا مايزال فى المرحلة الإبتدائية، علمت ساعتها أنها "سينما" بعد سؤالى لسائقها، كانت حالة غريبة على وقتها، لأنى أعلم أن السينما تعرض داخل قاعة، وليست فى الشارع، كان عرض السينما فى مكان أو ميدان وسط القرية يطلق عليه "الصارى"، هذا الصارى كان عبارة عن قاعدة طويلة، وفوقها تمثال لرأس الزعيم جمال عبد الناصر. أراك تبتسم معى الآن وتتذكر هذا الصارى.
هنا فى هذا المكان، كانت العربة واقفة تنتظر غروب الشمس حتى تستطيع أن تعرض المادة التى جاءت من أجلها، أتذكر أن العربة كان مكتوب عليها "الثقافة الجماهيرية".
لم نكن وقتها ندرك معنى تلك الكلمة، ولكن كان همنا وهم جميع الأطفال مشاهدة العرض الذى كان يعرض لأول مرة فى وقت لم يكن بالقرية أجهزة تلفزيون بعد إلا قليلا جدا ، ولم يكن الأطفال يعرفون وقتها أى شئ، بل منهم لم يشاهد التلفزيون من قبل.
دارت الآلة العجيبة من داخل العربة، وسلطت شعاعها على الحائط الذي ظهر كانه كلوب من نور ، ومع هذا النور ، ومع إنبهار الاطفال ومعهم الكبار الذين جاؤوا أيضا ليشاهدو هذا الحدث الفريد، وتم عرض فيلم عن الاسلام، .. كان الكل مشدودا، عيونهم لاترمش وكأن على رؤسهم الطير، لا صوت كان بالنسبة لهم هو يوم عيد. سيتكرر لهم مرة أخرى.
وراحت القرية فى اليوم التالي تروي ما شاهدوه، وتكررت الحكاوى آلاف المرات، فترسخ فى داخلهم جزء من الثقافة دون أن يدروا، ولكن هذه التجربة لم تتكرر مرة أخرى.
ومع الدراسة والعلم والنضوج. أدركت معنى الثقافة الجماهيرية.وهى قد تكون من أخطر القطاعات فى تلك الوزارة.لأن من تسميتها هى قطاع القرى والنجوع بعيدا عن القاعات الفخمة كقاعات المسرح والسينما.
صحيح أن القرى تحتاج إلى محلات ودور سينما ومسارح ومولات، ولكن ومع كل هذا هى فى أشد الإحتياج إلى ثقافة جماهيرية تواكب القرن الواحد والعشرين، تحتاج إلى سينما على الحائط ومسرح بكنبتين وكتاب وفن قرية مثلما نطلق عليه فى المدينة "الفن ميدان" يذهبون لتلك القرى والنجوع مرة أخرى .
ويمكن أن نشكل فى تلك القرى والنجوع روابط "أصدقاء الثقافة الجماهيرية"، لعل وعسى يخرج منها الأدباء والشعراء والوزراء، فالقرى مفرخ الإبداع، فكما أبدعت في السابق ننتظر منها الآن الألاف من المبدعين.