القاهرة: الأمير كمال فرج.
لطالما هيمنت الأساطير وحياة الملوك والحياة الآخرة على السرد التاريخي لمصر القديمة، مما جعل التركيز ينصبّ على الفراعنة ومعابدهم الشاهقة. لكن الغوص في طبقات التاريخ المنسية يكشف عن القصص الإنسانية لمن قاموا ببناء هذه الإمبراطورية العظيمة.
يقدم معرض جديد ومبتكر في متحف فيتزويليام في كامبريدج، بعنوان "صُنع في مصر القديمة"، منظوراً فريداً يركز على العمال المهرة الذين عاشوا بالقرب من طيبة وعملوا في وادي الملوك. وبدلاً من التركيز على الذهب والمومياوات، يستمد المعرض مادته من الأوستراكا — وهي شظايا من الفخار والحجر استُخدمت كأوراق يومية للكتابة والرسم — لتسجيل تفاصيل حياتهم اليومية الدقيقة، بدءاً من طلبات العمل المستعجلة ورسوماتهم الفنية، وصولاً إلى مذكرات الغياب عن العمل بسبب المرض أو الإصابات الغريبة.
ذكرت إستر أدلي في تقرير نشرته صحيفة The Guardian إن "منذ ما يزيد عن 3200 عام في ورشة عمل بالقرب من طيبة في مصر، التقط رجل يُدعى نخت آمون قطعة فخار مكسورة ودوّن عليها طلباً عاجلاً لحرفي ليصنع له أربع نوافذ".
وكتب الرجل بأحرف هيراطيقية، وهي شكل من أشكال الكتابة مشتق من الهيروغليفية، قائلاً: "هذه مهمة تتطلب صنع أربع قطع من هذا النوع بالضبط. بالضبط!" وأضاف: "لكن عجّل، عجّل، بحلول الغد. سأخبرك!" وتحت رسالته المُلحة، رسم نخت آمون مخططاً للنوافذ التي يريدها بأبعادها الدقيقة — حيث كان الرمز المستخدم للدلالة على "الارتفاع" هو رسم لشخص صغير يرفع ذراعيه عالياً".
تُعد قطعة "القمامة" المتواضعة هذه، التي يُفترض أنه تم التخلص منها بعد تلبية الطلب، إحدى كنوز المعرض الجديد في متحف فيتزويليام في كامبريدج، والذي يركز على العمال اليوميين الذين قاموا ببناء بعض أشهر المواقع في مصر القديمة، والتقنيات والأساليب التي استخدموها للقيام بذلك. كان هؤلاء هم النحاتون وصانعو التوابيت وصانعو الصنادل الملكية الذين عاشوا بالقرب من طيبة وعملوا في وادي الملوك، موقع مقابر الفراعنة.
على الرغم من أن المواقع التي ساعدوا في بنائها أصبحت تُبجّل وتُقدّس على مر آلاف السنين التي تلت ذلك، إلا أن الحياة اليومية لهؤلاء العمال المهرة قد تم التغاضي عنها حتى الآن.
وفقاً لهيلين سترودويك، عالمة المصريات البارزة في متحف فيتزويليام والقيّمة على المعرض. ووفقاً للمتحف، يعد هذا المعرض هو الأول من نوعه في أي مكان في العالم.
وقالت سترودويك: "ما يحدث غالباً مع القطع الأثرية المصرية القديمة هو أننا ننظر إلى السطح الخارجي لنرى ما تخبرنا به عن الأساطير أو معتقداتهم حول الحياة الآخرة". وأضافت: "لكن إذا نظرت إلى هذه العناصر من منظور مختلف قليلاً، فستحصل على علاقة أعمق مع أهل مصر القديمة، ويمكنك فعلياً مقابلة هؤلاء الأشخاص وجهاً لوجه تقريباً".
يركز جزء كبير من المعرض على الأوستراكا ostraca – وهي قطع من الحجر أو الفخار كان يلتقطها عامل ويدون أو يرسم عليها كظروف رسائل قديمة معاد استخدامها. إحدى شظايا الحجر الجيري تسجل حالات الغياب عن العمل في المقابر الملكية: ففي أحد الأيام، تغيب عامل يُدعى بانيـبو لمرضه بعد أن عضّه مخلوق لم يُذكر اسمه. كما مرض المشرف، رامري، في يوم آخر عندما "لم يعمل" خمسة عمال آخرين.
وتحتوي لوح آخر على شبكة مرسومة بعناية فوق صور لقط وأسد ووعل، كان القصد منها أن تكون دليلاً للرسم لأولئك الذين يزينون المقابر. وعلى قطعة متشققة من الحجر الجيري، كتب أحدهم إيصالاً لتزيين تابوت، بلغت تكلفته ما يعادل أجر ثلاثة أشهر.
العديد من المعروضات مُعارة من متحف اللوفر في باريس، وهي أهم إعارة من مجموعته المصرية القديمة منذ 20 عاماً، وقالت سترودويك : "ما نتعلمه من هذه القطع هو أنه كان هناك ضغط لإنجاز العمل بنفس الطريقة الموجودة في يومنا هذا". واختتمت قائلة: "نرى عملهم الماهر بشكل مذهل، ثم نجد أحياناً عيباً صغيراً حيث ترك الشخص بصمة إصبعه بالخطأ. هذا يجعل المصريين يبدون أكثر إنسانية. وهذا حقاً ما آمل أن يخرج به الناس".
إن قيمة هذه الاكتشافات تكمن في قدرتها على تجريد الحضارة المصرية القديمة من هالتها الأسطورية والملكية، لتقدم لنا صورة حميمية ونابضة بالحياة لعامة الناس. فبدلاً من التركيز على نقوش الأبدية في المقابر، نجد في شظايا الفخار المكسورة دليلاً ملموساً على أن المصريين القدماء لم يكونوا مجرد قوى عاملة ضخمة، بل أفراداً لهم آلامهم وتفاصيلهم اليومية؛ حيث تسجل تلك الشظايا أسماء عمال تغيبوا عن العمل بسبب المرض أو عضة حيوان غامض، وتوثق ضغوط العمل بعبارة "عجّل، عجّل، بحلول الغد"، بل وتضم أحياناً بصمة إصبع عامل سُجلت بالخطأ، لتربطنا بهم بخيط إنساني دقيق يمتد لآلاف السنين. هذه اللحظات العابرة والهشة هي ما يؤكد أنهم كانوا "أكثر إنسانية" مما نعرف، ويُضفي على تاريخهم بُعداً حياتياً وشخصياً لم يكن مرئياً من قبل.