القاهرة: الأمير كمال فرج.

لطالما وقف العلماء مذهولين أمام "آلية أنتيكيثيرا، ذلك الجهاز المعقد الذي استُخرج من حطام سفينة اكتُشفت عام 1901، وتبين أنها غارقة منذ أكثر من ألفي عام، والذي يُعده الكثيرون أول حاسوب تماثلي في تاريخ البشرية. اليوم، وفي تلاقٍ مذهل بين فيزياء الفضاء الحديثة وعلم الآثار القديم، نجح باحثون في استخدام تقنيات استُخدمت أساساً لرصد الثقوب السوداء في أعماق الكون، لفك لغز هذا الجهاز اليوناني الذي يعود تاريخه إلى ألفي عام.

ذكر فيكتور تنجرمان في تقريرنشرته مجلة Futurism إن "باحثون من جامعة غلاسكو أعلنوا عن استخدام تقنيات متطورة مخصصة لأبحاث "أمواج الجاذبية" وهي تموجات في نسيج الزمكان تنتج عن أحداث كونية كبرى لتسليط ضوء جديد على لغز آلية أنتيكيثيرا Antikythera mechanism. هذا الجهاز الذي يعود للقرن الثاني قبل الميلاد، نال شهرة واسعة مؤخراً بعدما ظهرت نسخة مستوحاة منه في فيلم إنديانا جونز الأخير Indiana Jones and the Dial of Destiny إنديانا جونز وقرص القد".

السر الكامن في الثقوب

في دراسة نُشرت في "المجلة الرسمية للمعهد البريطاني لعلوم التوقيت"، استخدم الباحث غراهام وان وزميله جوزيف بيلي النمذجة الإحصائية لترجيح أن الجهاز كان يُستخدم لتتبع "السنة القمرية" اليونانية.

وكانت دراسات سابقة في عام 2021 قد أشارت إلى وجود ثقوب متباعدة بانتظام في "حلقة التقويم" الخاصة بالجهاز، صُممت لوصف حركات الشمس والقمر والكواكب الخمسة المعروفة في العصور القديمة. ولكن، ومن خلال التحليل الإحصائي البايزي – وهي تقنية تستخدم الاحتمالات لتقدير البيانات غير المكتملة – توصل الفريق إلى أن الحلقة تحتوي على 354 ثقباً، وهو ما يتطابق تماماً مع عدد الأيام في السنة القمرية.

دقة فيزيائية تتفوق على الافتراضات

استبعد الفريق تماماً فكرة أن الجهاز كان يقيس السنة الشمسية؛ حيث ذكر البحث أن وجود 360 أو 365 ثقباً هو أمر غير محتمل وفقاً للنماذج الرياضية المستخدمة. المثير للاهتمام أن هذه النماذج مشتقة مباشرة من البيانات المستخدمة في مرصد LIGO، وهو أضخم تجربة فيزيائية في العالم لرصد التموجات الكونية على بعد ملايين السنين الضوئية.

من "يوتيوب" إلى الاكتشاف العلمي

جاءت شرارة هذا البحث من مصدر غير متوقع؛ وهو "يوتيوبر" كان يحاول صنع نسخة طبق الأصل من الجهاز. يقول البروفيسور وان: "أشار أحد الزملاء إلى بيانات جمعها صانع المحتوى كريس بوديسليك، الذي كان يبحث عن طرق لتحديد عدد الثقوب في الحلقة بدقة".

وأضاف وان: "ثمة تناغم رائع في تطويع تقنيات نستخدمها لدراسة الكون اليوم، لفهم جهاز ساعد البشر على تتبع السماء منذ آلاف السنين".

وعلى الرغم من أن هذا الاكتشاف قد لا يحمل الطابع الخارق للطبيعة كما ظهر في أفلام هوليوود، إلا أنه يمثل قفزة نوعية في فهمنا لمدى براعة اليونانيين القدماء في الهندسة الفلكية، ويؤكد أن العلم الحديث لا يكتفي باستشراف المستقبل، بل يمتلك الأدوات الكافية لإعادة كتابة التاريخ.