الدكتور رضا عبدالرحيم .
يحظي جبل فوجي ذو الارتفاع الشاهق (377624 م ) والجمال الأخاذ بتقديس كبير عند اليابانيين منذ قرون عديدة ويُعد مصدرا كبيرا لإلهام الفنانين،وقد نالت تلك الصفات الرائعة اعتراف العالم في عام 2013 م عندما أدرجته منظمة اليونسكو ضمن قائمتها للتراث العالمي تحت عنوان فوجي سان مكان مقدس ومصدر للإلهام الفني.
وعلي الرغم من مظهره الذي يوحي بالهدوء نظرا لموقعه الاستراتيجي وبعده عن الأماكن الحضرية، فهو يضم في تاريخه وجها آخر يجعله جبلا رهيبا ويبرر تصنيفه كبركان نشط، وقد حدث آخر انفجار ضخم لهذا البركان في عام 1707م أي منذ أكثر من ثلاثمائة واحد عشر عاما كاملة.
أقام اليابانيون مرصدا في أعلي قمة الجبل المقدس، حيث تبلغ مساحة قمة الجبل حول فوهة البركان 3 كم تقريبا. ويحيط به خمس بحيرات، ويقع بالقرب من شاطيء جزيرة »هونشو» علي المحيط الهادي،علي الحدود بين محافظتي شيزوكا وياماناشي، وتحيط به ثلاث مدن هي: غوتيمبا إلي الجنوب،فوجي يوشيدا إلي الشمال،وفوجينوميا إلي الجنوب الغربي.
واكتسب الرسام الياباني الأشهر كاتسوشيكا هوكوساي (1760-1849) شهرة بالغة كرسام للمناظر الطبيعية بمجموعته "ستة وثلاثون نظرا لجبل فوجي"، وهذا الرسم المطبوع والذي يعرف شعبيا باسم »فوجي الأحمر» مشهور بصفة خاصة.
ولا أجد وصفا لعظمة هذا الجبل المقدس » فوجي» أبدع مما جاء برواية سقوط الملاك للأديب الياباني يوكيو مشيما (أشهر الكتاب اليابانيين في القرن العشرين):
"شمخ جبل فوجي عاليا فوق التلال.بدت القمة وحدها جلية للعيان،كأنما ألقيت صخرة بيضاء عاليا من خلال سحب الظنون".
وكان من حسن طالعي أن أري قمته من القطار كهالة الضوء (الناروز) التي تحيط برؤوس الشهداء عند إخوتي من المسيحيين.
وعند سفح جبل فوجي تنضم المياه الموجودة تحته إلي نهر يتساقط فوق شلال »شيرايتو نو تاكي» ويصل أحيانا معدل تساقط المياه علي الشلال إلي 1,5 طن في الثانية الواحدة.
وفي الأزمنة القديمة كان هناك اعتقاد بأن الأرواح التي تغادر الجسد بعد الموت تصعد عبر الجبال حيث تصبح آلهة »كامي» عندما تصل إلي القمة، وتتحول بعد ذلك إلي آلهة في المنزل »أوجي-غامي» لتحمي أفراد العائلة (تبعا للديانة الشنتوية).
وعندما وصلت الديانة البوذية إلي اليابان فيما بعد جلبت معها الاعتقاد بالبعث وبأن الأرواح تمر بعد الموت بعوالم ستة بينما تشق طريقها فوق الصخور وعبر الغابات حتي قمة الجبل وهناك تتحقق لها صفة الكمال الروحي أو »هوتوكي»، ومن هنا أصبحت الجبال هي مقر الآلهة الشنتوية القديمة والآلهة البوذية أيضا لأنها أعلي الأماكن علي سطح الأرض وأكثرها قدسية.
ومع تطور هذا النوع من عبادة الطبيعة تأصل عند اليابانيين الإحساس بأن الجبال يجب التطلع إليها بإجلال من أسفل لأن الآلهة تسكن عند قممها في العالم الآخر.حيث يعتقدون أن الطبيعة ليست بوجه من الوجوه طبيعية حصرا،وإنها دائما مثقلة بقيمة دينية.وهذا جلي ما دام الكون خلقا إلهيا:
إن العالم الذي خلقته الآلهة بيدها يظل مغموسا بالقداسة.
وعلي قمة جبل فوجي يوجد معبد شنتوي يسمي »سينغين جينجا» وهو مقر آلهة الجبل الشنتوية،وقد أقيمت أيضا معابد أخري كثيرة تحمل نفس الاسم علي منحدرات الجبل وبتأثير من الرغبة القوية لدي اليابانيين نحو تعظيم جبل فوجي باعتباره إلها في حد ذاته.
وهذا المعتقد في قدسية الجبال إنساني، ولا يختلف فيه اليابانيون عن غيرهم ففكرة الجبل الكوني الذي يربط بين السماء والأرض سواء كان الجبل أسطوريا أو واقعيا نجدها في جبل ميرو في الهند،وجبل هارابرزايتي في إيران،والجبل الأسطوري المسمي جبل البلاد في العراق،وجبل جرزيم في فلسطين.
هذا الاعتقاد نراه مسجلا فيما يسمي "مان يوشو" وهي مجموعة أشعار من طراز »واكا» - مقاطع شعرية لفظية علي وزن ( 5-7-5-7-7 ) - تم تجميعها خلال مائة سنة تقريبا ابتداء من النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، وفيما نجد أن أحد شعراء البلاط ويدعي »يامابي نو أكاهيتو» يمدح ارتفاع جبل فوجي وجماله وطبيعته المقدسة قائلا:
"كامي سابيتي – إيرو" ومعناها "يتصرف مثل إله" ،وهنا نري إشارة أدبية مبكرة وواضحة جدا للطبيعة المقدسة لجبل فوجي.
خرجت من الفندق (يوكو) مبكرا، عاقد العزم علي اختراق طريق هاكوني هاتشيري وفي يدي خريطة ورقية ملونة للوصول إلي هدفي المقدس فوجي سان، هبطت سلم محطة المترو وقمت بتزويد الماكينة الإليكترونية بـ170 ينا معدنيا وسجلت اسم المحطة التي سأنزل إليها وهي محطة Shinjuku وهي تبعد عن الفندق سبع محطات فقط.منحتني الإله تذكرة ورقية زرقاء نظرت إلي الخط الأزرق علي أرضية المترو الذي قادني حتي المصعد الذي هبط إلي الدور الثاني.حيث شاهدت عجبا.! رصيف المترو أيضا له بوابات إليكترونية تفتح أمام أبواب قطار المترو وتغلق بعد التأكد من سلامة هبوط وصعود الركاب. بعد خمس عشرة دقيقة تقريبا كنت قد وصلت إلي محطتي، اشتريت زجاجة مياه، ثم قمت بشراء تذكرة قطارسريع (الطلقة) بـ2320 ينا ولم أستطع النوم بل تعلقت عيناي بالطريق. ما كل هذا الجمال.!
سبحان الله جبال شاهقة وصخور تتلألأ عليها أمطار الخريف الخفيفة فتزيدها حسنا فوق حسنها الأخاذ. سبحان الله ساعة كاملة وأنا مشدو لا أنطق غير بكلمة سبحان الله، ما أجمل الترحال بين أحضان الطبيعة الجميلة، هنا بحر وبحيرات وبرك مائية وهناك نهر وفي الأسفل شلالات، وأشجار ضخمة.
علمت بعدها أنها غابة ساحل "ميهو نو ماتسوبارا" الصغيرة وهي علي بعد 45 كيلومترا جنوب غرب قمة جبل فوجي، وهي غابة من أشجار الصنوبر،وهناك معبد "ميهو" الذي أقيم لتبجيل شجرة صنوبر مقدسة، وتخبرنا الأسطورة اليابانية القديمة أن أنثي ملاك نزلت من السماء إلي هذه البقعة وخلعت الرداء التي كانت ترتديه (هاغورومو) لكي تسبح، وقامت بتعليقه فوق تلك الشجرة.
أشتم رائحة دخان بركان فوجي، وأشتري "بيضة" تم سلقها بواسطة الأبخرة المتصاعدة بفعل سخونة الحمم البركانية السائلة الصغيرة الهابطة من جسده، وأزور مرتفاعات "نيهونديرا" التي تقع أسفله، وأشاهد السفن العتيقة الأسطورية الطراز علي شاطيء "كوماجوي".