الأمير كمال فرج.
على مدى السنوات الطويلة التي قضيتها في العمل الثقافي، لم أجد شخصية أجمع على حبها الجميع مثل الأديب السوري الكبير الأستاذ نواف يونس، الذي يدير واحدة من أهم المطبوعات الثقافية العربية، وربما الأهم وهي "الشارقة الثقافية".
ولد نواف علي غانم يونس في 25 أغسطس 1950، في مدينة طرطوس السورية على ساحل البحر المتوسط ، وهي مدينة تاريخية فينيقية اكتسبت اسمها من اللاتينية «أنترادوس»، ورغم رفضي لفكرة تجنيس الإبداع، فإن المثقفين السوريين بالفعل كانوا في طليعة المثقفين العرب الذين صاغوا عقل الأمة، وتاريخها الثقافي، وقدموا إسهامات رائدة في كافة حقول المعرفة والإبداع والثقافة والوعي والتنوير، وتميزوا في كل مجالات الفن والثقافة والسينما والدراما والإعلام.
وكان من الطبيعي أن يتميز السوريون أيضا في الصحافة الثقافية، فبالإضافة إلى الأستاذ نواف، أتذكر محيي الدين اللاذقاني الذي ظل لسنوات طويلة يعد أهم الملاحق الأدبية العربية في صحيفة "الشرق الأوسط اللندنية، وصديقي حاتم صادق المحرر الثقافي المخضرم في "الشرق الأوسط".
وأعتقد أن البحث في جذور ذلك، سيصل بنا في النهاية إلى حقيقة مهمة مجردة هي "الانسان السوري" صانع الحضارات، المبدع، عاشق اللغة والمعرفة الذي لازال يتمسك بالحلم العربي، ولازال يؤمن بتحقيقه.
جمع الأستاذ نواف بتعامله الراقي الأدباء والمثقفين من كل البلدان العربية من المحيط إلى الخليج ، الشامي والمغربي، ومن كل الأعمار والتيارات الأدبية والثقافية، وتمكن بثقافته وأدبه الجمّ وخبرته الطويله في العمل الثقافي من صناعة صحافة أدبية عربية لا تنحاز إلا للقيمة والمضمون، فاستحق بالفعل أن يكون رائد الصحافة الثقافية.
عندما قابلت الأستاذ نواف لأول مرة في مكتبه في مجلة "الشارقة الثقافية"، أدهشني بكرمه وترحابه وثقافته، وأدركت أنني أمام رجل من جيل الرواد الذين يحملون القيم الأدبية الرفيعة التي صنعت المجد الثقافي العربي، وعندما منحني فرصة الكتابة في "الشارقة الثقافية" فرحت كأنني أنشر لأول مرة، كان يصفني في البداية بـ "الشاب المصري"، وكنت عندما أسمع هذا الوصف أبتهج في داخلي، وتدب في سنيني الخمسين روح الشباب.
ومن خلال زياراتي للمجلة، وفي كل مرة ألقاه، يتحدث الأستاذ ، فيستفيض، ويقدم آرائه القيمة في مختلفة القضايا الثقافية والفكرية، وذكرياته في الوسط الثقافي خاصة في بداياته مع صحافة القاهرة، ونصوصه الأولى التي نشرها في "الأهرام" وحكاية أول مكافأة تلقاها، والتي وصلت إليه عن طريق البريد، وكانت جنيهات قليلة، وأمام ثقافته الواسعة أنصت كالتلميذ الذي يقف أمام أستاذه، وأمنّى النفس بأن أتمكن ذات مرة من تسجيل هذه الذكريات وتوثيقها في عمل صحفي أدبي.
يبدأ الأستاذ نواف دوامه في "الشارقة الثقافية" مبكرا، إذا أردت مقابلته عليك أن تكون في تمام السابعة صباحا في المجلة، ورغم أن الصحفيين اعتادوا الدوام المتأخر، ومعظمهم يداوم الثانية بعد الظهر، يبدأ الأستاذ نواف العمل مبكرا، وهي كما أظن أحد أسرار الإدارة الناجحة، حيث تعد ساعات الصباح الأولى أهم ساعات اليوم من حيث الابداع والتركيز.
ورغم أن مدير التحرير وحتى سكرتير التحرير في أي مطبوعة يكتفي بالإشراف والتوجيه والتخطيط، حتى أن أدبيات الصحافة تصف الأول بالملك المتوج والثاني الملك غير المتوج، يعمل الأستاذ نواف بنفسه على مواد الشارقة الثقافية ، كلمة كلمة، وحرف حرف، وكأنه عاشق يهتم بحبيبته، ويراعي فيها أدق التفاصيل، لتظهر في أفضل حلة كل شهر.
كان أستاذنا الصحفي سمير رجب رئيس تحرير صحيفة "الجمهورية الأسبق، يعلن حالة الطواريء عندما يكتب مقاله اليومي، فتوقف السكرتارية الاتصالات وتمنع الدخول، ويعرف كل العاملين في مبنى دار التحرير للطبع والنشر القديم في شارع الجمهورية أنه يكتب مقاله اليومي، أما الأستاذ نواف فيتميز بالقدرة على كتابة مقاله في الضجيج، حتى في وجود ضيوف في مكتبه العامر دائما بالأدباء والصحفيين والمثقفين .
ومن المعلومات المهمة أيضا عن الأستاذ أنه يكتب مقاله الأدبي الشهري المهم الذي يتابعه القراء والمثقفون كل عدد بخط يده، ففي الوقت الذي تكتب الأجيال الجديدة على الكمبيوتر، يتمسك الأستاذ بالكتابة اليدوية بما تحمل من حميمية وتركيز وإبداع، وهو يذكرني بعدد من الكتاب يتمسكون بالكتابة اليدوية ، ومنهم الكاتب السعودي الدكتور علي سعد الموسى الذي كان الوحيد في صحيفة "الوطن" الذي يرسل مقاله مخطوطا باليد، فنخصص ثلاثة أشخاص لصفّه وتلاوته ومراجعته على الكمبيوتر، خاصة وأن خطه "مش ولابد"، وأيضا صديقي الناقد الباحث الأستاذ الدكتور صابر عبدالدايم الذي أرسل لي أجوبة الحوار الذي أجريه معه مخطوطا، فوقعت في الفخ.
ويهوى الأستاذ حل الكلمات المتقاطعة ، لذلك ليس غريبا أن تجده قبل العمل منخرطا في حل واحدة منها في إحدى الصحف، وقد امتلك خبرة كبيرة ومهارة في هذا الموضوع، حتى أنه يكتشف من حين لآخر أخطاء في إعداد الكلمات المتقاطعة نفسها ، وهو يعتبر ذلك تدريبا ذهنيا يوميا لابد منه.
ويتعامل الأستاذ مع أعضاء هيئة تحرير المجلة ـ وهم من أجيال صحفية وأدبية مختلفة ـ بروح العائلة، ويداعبهم، ويشاركهم تناول الفطور، ويعلمهم كوالد وأخ في صورة راقية من صور الزمالة الصحفية التي تتميز بها مهنة الصحافة عن كل المهن ، ففي الصحافة لا رئيس ولا مرؤوس، وكلنا في خدمة الصحافة صاحبة الجلالة ، بما تحمل من مباديء وقيم.
يدخن الأستاذ نواف بشراهة، ولا يستخدم الموبايل لأسباب صحية، ويقرأ الواتسآب بعد السادسة مساء، ويشرب البابونج وهو الاسم الشائع لأزهار الأقحوان، ولا يتناول السكر أبدا، وربما يكون ذلك سبب رشاقته السبعينية التي يحسده عليها الشباب.
ولاشك أن وجود نواف يونس في هذا الموقع الثقافي يعكس حقيقة مهمة، وهي رؤية القيادات الثقافية في الشارقة، ومن مقوماتها حسن الاختيار، ونذكر في هذا الصدد مدير دائرة الثقافة في الشارقة الأستاذ عبدالله العويس الذي يقود الملحمة الثقافية في الشارقة، بتوجيهات حاكم الشارقة الأديب والمثقف الدكتور سلطان القاسمي مبدع تجربة إمارة الشارقة الثقافية، والتي أصبحت بفضل جهوده الكبيرة حركة ثقافية عربية عالمية.
كل عام والرائد والرمز والقدوة نواف يونس بخير، وكل عام والقيم الصحفية والإنسانية التي نتعلمها منه كل يوم بخير، هذه القيم التي يجب على الأجيال الصحفية الجديدة الحفاظ عليها، لتكون زادا لهم في مسيرة الصحافة الثقافية الموارّة المستمرة .