الأمير كمال فرج.
في كل جيل رواد، علامات فارقة، هؤلاء هم النفوس الكبار التي خصها الله تعالى بخصال وسجايا عظيمة كالعطاء والتوجيه والتثقيف والتنوير ونشر القيم الجميلة، هم في الحقيقة أشبه بمنارات ترشد السفن التائهة في المحيط، وشيوخ المهنة الذين يعلمون تلامذتهم أسرار الصنعة، يقومون بأعظم مهمة وهي إعمار الأرض، من هؤلاء عبدالفتاح صبري.
كنت أعتقد أن مفهوم الريادة الذي عرفناه في الخمسينيات والستينيات انتهى، الريادة التي أنجبت جيلا من المثقفين أمثال طه حسين ونجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي، وكنت أتباكى لانتهاء هذا الجيل الذهبي، وهذه الفئة من الناس التي تجمع بين العلم والوعي والحب والرغبة في الارتقاء بالناس والمجتمع، هذه الفئة التي لعبت دورا مهما في النهضة العربية، ولكني أخيرا اكتشفت أن هناك العديد من الرواد والقمم، منهم عبدالفتاح صبري.
إذا حاولت وصف عبدالفتاح صبري سأحتار، من أين أبدأ؟، هل أتحدث عن الأديب الذي أثرى المكتبة العربية بأكثر من أربعين كتابا في الشعر والقصة والمقال والرؤى الفكرية؟، أم أتحدث عن الصحفي الذي يدير مطبوعة من أهم المطبوعات الثقافية في إمارة الشارقة وهي "الرافد"، وأشرف على إصدار العديد من المجلات والمنشورات والملاحق؟، أم أتحدث عن اسهاماته الكبيرة في التنظيم الثقافي، حيث أشرف وساهم في إنجاح العديد من الفعاليات والمؤتمرت الثقافية التي تنظمها الشارقة على امتداد الوطن العربي، ورفع مشعل الثقافة العربية في كل مكان، أم أتحدث عن الناقد الذي يمشى على خطى قدامة ابن جعفر، ولا يخشى في النقد الأدبي لومة لائم؟.
أم ترى أتناول جهوده الاستثنائية في صناعة الكتاب، من خلال دائرة الدراسات في دائرة الثقافة في حكومة الشارقة، والتي صدر عنها ما يربو على الألف كتاب في كافة حقول المعرفة؟، أم أتحدث عن الروح النقية التي تحتوي الجميع بأبوية عجيبة، يدعم هذا ويعلم ذاك، وينشر قيم التآخي والتلاقي في كل مكان؟ .لذلك كان الحديث عنه مهمة صعبة.
كان عبدالفتاح صبري أول شخصية أدبية وصحفية أقابلها في الشارقة، وكان ذلك كما يقول المصريون من محاسن الصدف، حيث وجدت فيه العمق الإنساني الذي يشعرك بالقرب والمودة، والعمق الثقافي الذي يعطيك دون قيد أو شرط، وكان ذلك بداية علاقة روحية أشبه بعلاقة الأستاذ بالتلميذ أو الشيخ بالمريد.
يعظَم عبدالفتاح صبري المكان، المكان لديه ليس بناء وحجر، ولكنه مشاعر نابضة ونقوش مرسومة كالوشم على تضاريس الروح، وله في ذلك كتاب فريد بعنوان "دفء المكان"، وكذلك يفعل مع الأدوات والأقلام والقصاصات الصغيرة، لذلك لا عجب أن تكتشف أنه يحتفظ في مكتبه بعشرات الأقلام التي انتهت، فلكل منها قصة، ولكل منها ذكرى حميمة، فإذا كان يتعامل بهذا الرقي والحميمية مع الأشياء الجامدة، فكيف سيتعامل مع البشر؟.
ويتمتع مولانا عبدالفتاح صبري بروحانية عالية، والقدرة على نقل الإيجابية إليك، مهما كانت همومك، جلسة معه ستغير نظرتك للحياة، وهو يؤمن أن للإيجابية مفعول السحر، وأن البشر صنفان، الأول ينقل السلبية والثاني ينقل الإيجابية، وأن علينا جميعا أن ننقل للآخرين هذه النظرة السحرية الكفيلة بتغيير الواقع إلى الأفضل، النظرة التي تفعل المعجزات.
في أحد المرات شكوت له ألما أشعر به في قدمي جراء حادث بسيط تسبب في تمزق في الأربطة الداخلية، وهو ما يستدعي 12 جلسة علاج طبيعي وفقا للطبيب المعالج، فهون الرجل الأمر عليَ، وأخبرني أن الجسم يصلح نفسه بنفسه، وأن هذا التمزق سينتهي، في نفس اليوم الألم اختفى.
وأستاذنا عبدالفتاح صبري إضافة إلى ثقافته الواسعة في حقول متنوعة، هو أيضا سارد عليم بالتاريخ، عندما تسأله عن واقعة تاريخية يتحدث ويصحح المعلومات، ببساطة وعمق وبترتيب زمني دقيق، يسهل الاستيعاب، وهو ما يمنحه صفة المؤرخ بامتياز.
ومكتب عبدالفتاح صبري في دائرة الثقافة هو في الحقيقة مكتب كل المثقفين والمبدعين من كافة الجنسيات العربية، حيث يلتقي الشعراء والأدباء والتشكيليين من سوريا ومصر والإمارات واليمن وموريتانيا والسودان وغيرها من البلدان، في تنوع ثقافي وجغرافي فريد، جمعتهم الشارقة على عشق الكلمة، وعلى نفحات القهوة التي يعدها العامل الهندي الطيب "فاروق" تدور أعظم الحوارات.
شكرا من القلب لعبد الفتاح صبري الانسان والمبدع والمرجع الثقافي العربي الكبير، وشكرا للشارقة التي أعلت من قيم الثقافة والإبداع، وحاكمها المثقف الكبير الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي مبدع تجربة الشارقة الثقافية الذي حقق الحلم العربي، وجمعنا أخيرا زرافات ووحدانا على حب الكلمة.