الأمير كمال فرج.
اليمن أصل العرب، ففيها نشأ العرب العاربة "القحطانيون" الذين تحدثوا اللغة العربية الأصلية، ثم انتشروا على امتداد جغرافية الأرض، والإيمان يمان، والحكمة يمانية، قال النبي صلى الله عليه وسلم "أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية". لذلك لا عجب إن خرجت من جبال اليمن قوافل العلماء والأعلام والمؤلفين والمحققين والمؤرخين والمبرزين الذين رفعوا مشاعل النور، وأثروا مختلف حقول المعرفة الانسانية.
الدكتور عمر عبد العزيز نتاج هذه الثقافة اليمنية العريقة، سليل الفاتحين العظام، والمفكرين الذين شربوا من نهر الحكمة، أخذ من أبناء قحطان زمام اللغة، ومن بلقيس ملكة سبأ رجاحة العقل، جمع بين ثقافة الشرق وتجلياته، وثقافة الغرب وفلسفاته. عندما أراه أتذكر جيلا من الرواد اليمنيين أمثال عبد الله البردوني، وأبو بكر سالم بلفقيه، وحسين أبو بكر المحضار، وعبد العزيز المقالح.
ولد عمر عبد العزيز لأبوين يمنيين يقيمان في الصومال التي كانت حينئذ تحت الاستعمار الإيطالي، وتبعاً لذلك كان عليه أن يدرس في المدرسة الإيطالية، فتوفرت له بذلك روافد ثقافية متنوعة: الرافد العربي الإسلامي، واليماني على وجه التحديد، والرافد الصومالي العربي الإفريقي، ثم الرافد الإيطالي اللاتيني.
وأضافت له الدراسة في رومانيا رافدا ثقافيا جديدا، حيث درس الاقتصاد في جامعة بوخارست، وحصل على الماجستير في العلاقات الاقتصادية الدولية والدكتوراه في العلوم الاقتصادية، لتشكل شخصيته أربع حضارات، ونتيجة لهذا التواشج الثقافي أتقن عددا من اللغات هي الإيطالية، والصومالية، والإنجليزية، والرومانية، إضافة إلى العربية.
المعرفة تقتصر عادة على مجال واحد أو مجالين وفي حالات نادرة ثلاثة، ولكن الدكتور عمر يمتلك ثقافة موسوعية شاملة، فهو يعرف الكثير عن تواريخ الأمم والحضارات، ويتقن العديد من العلوم والمعارف كالبلاغة والجمال والفنون والموسيقى والآداب الإنسانية، واللسانيات، والأديان، والمنطق، والفلسفة، والرياضيات.
والدكتور عمر عبد العزيز يجمع بين واقعية العالم الباحث الذي يتحرى الحقيقة ويعتد بالتجربة، وشفافية الصوفي، الذي يتجاوز المنظور والمعروف والمسلم به إلى الماورائيات، ويعرف أسرار العلوم الربانية البرهانية.
جمع بين الرواية والتشكيل، فهو يكتب الرواية بريشة الرسام الذي يحول الأحداث إلى ملامح وخطوط وألوان، ويرسم اللوحة بقلم الراوي الذي يهتم بالأحداث والأماكن والمنمنمات والتفاصيل، فتشعر أن لوحته عمل روائي، وروايته لوحة تشكيلية.
تقلد الدكتور عبد العزيز على مدار حياته المهنية العديد من المواقع، منها رئيسا لتلفزيون عدن، وأمينا لمجلس تحرير صحيفة "الخليج"، ورئيسا لمجلة "كل الأسرة"، ومديرا لتحرير مجلة "الرافد" الثقافية بنسختيها المطبوعة والرقمية، حيث توثق الأولى النشاط الثقافي في الشارقة، والثانية مشرعة للأقلام العربية في مختلف حقول الفكر والإبداع.
ومن الأدوار المهمة للدكتور عمر عبد العزيز والتي تستحق التوقف عندها طويلا، دوره الرائد في النشر الثقافي، من خلال موقعه كمدير الدراسات والنشر في دائرة الثقافة في حكومة الشارقة، حيث أشرف على إصدار أكثر من 1000 كتاب في كافة حقول المعرفة، وقدم أجيالا من المؤلفين على مدى اتساع العالم العربي، وساهم في بروز الشارقة كمركز ثقافي مؤثر في العالم.
ومن الإنجازات المهمة للدكتور عمر عبد العزيز "النشر الإلكتروني" الذي أسسه في دائرة الثقافة، وهو خطوة ثقافية متقدمة في التحول الثقافي العربي الرقمي، تخرج الأدب العربي من حدود الورق إلى فضاء الإنترنت.
والدكتور عمر عبد العزيز أيضا رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي العربي الذي أصبح على يديه مركزا للإشعاع الثقافي، وجامعة ثقافية عربية مصغرة تحتضن الأدباء والفنانين من كافة الدول العربية، وتخرج أجيالا من المبدعين.
أصدر الدكتور عمر أكثر من أربعين مؤلفا في مجالات الفكر والنقد والإبداع، منها "فصوص النصوص"، و"زمن الإبداع"، و"متوالية القديم والجديد"، و"تحولات النصوص"، و"الصوفية والتشكيل"، و"كتابات أولى في الجمال"، و"مقاربات في التشكيل"، و"تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية"، و"منازل الرؤية"، و"متوالية القديم والجديد"، كما أصدر عددا من الروايات التي أصبحت علامة في الكتابة الروائية، مثل "الحمودي"، و"النسيان"، و"مريوم"، و"سلطان الغيب"، و"المتسرنمون".
تجمع روايات الدكتور عمر عبد العزيز بين السير الذاتية والغيرية، وتمزج بين الواقع والخيال، تتمسك بالتقاليد من ناحية وتسبر الماورائيات من ناحية أخرى، ليؤكد بذلك أن الحقيقة ليست دائما منظورة ومجردة، وأن المعرفة ـ الجائزة الحقيقية ـ تحتاج إلى جهد نفسي وبدني للوصول إليها. لقد جمع السارد العليم بين الفكر والإبداع، وأرسى نظرية جديدة تقول أن الإبداع الأدبي رغم أهميته بحاجة إلى إعمال العقل والتفكر والتدبر لسبر وكشف أسرار الكون والحياة.
إلتقيت الدكتور عمر عبد العزيز لأول مره في مكتبه في دائرة الثقافة في الشارقة، بعد أن قدمني له الأديب الكبير عبد الفتاح صبري، وأدهشني بحفاوته وكرمه، وروحه التي تتسع للجميع، ومن اللقاء الأول أدركت أنني اكتشفت الكنز، وأني أمام قامة أدبية وفكرية قلما تتكرر، وكان ذلك بداية صداقة روحية وفكرية بيننا، وتوالت بعد ذلك لقاءاتي مع الدكتور، وأصبحت من تلامذته ومريديه، في كل مرة أقابله أتعلم منه المزيد على مستوى الثقافة والابداع والقيم الإنسانية.
يتمتع الدكتور عمر عبد العزيز بحس فكري وإنساني كبير، فهو لا يتحدث من زاوية مناطقية وجغرافية ضيقة، ولكن من منطلق فكري عام، يؤمن بوحدة العالم، واتحاد الثقافات الانسانية، لذلك لا عجب أن يستلهم في إصداراته الموروث العربي، كما فعل في سرديته "الشيخ فرح ود تكتوك حلال المشبوك" التي تستلهم بحب حكاية شعبية في الموروث السوداني.
وفيما يؤكد عمر عبد العزيز في كل محفل على أهمية الفكر العالمي، يؤمن بفرادة التجربة الفكرية الاسلامية والعربية، ووجوب العمل على توثيقها، والاستفادة من معطياتها، واستكشاف جوانبها الخفية التي لم تستكشف بعد.
يتميز الدكتور عمر بقدرة فارقة على التفكير والتأويل والارتجال والإسناد والتأريخ والتحليل واستدعاء المعلومة، والمقارنة، والمناظرة، وهي ملكات قلما تتكرر في شخصية واحدة.
والدكتور عمر طلق اللسان، حاضر البديهة، وافر المعلومات، عندما يتحدث، فهو نهر متدفق من المعرفة، حتى حديثه العادي مليء بالقيمة، عندما يتحدث ينصت الآخرون، ويشعر المستمع أنه يستطيل ثقافة وعلما، لذلك فإن تسجيل أحاديث الدكتور المرتجلة، سواء مع الأصدقاء أو برامج تلفزيونية، سيقدم لنا كتبا بالغة القيمة.
لغة عمر عبد العزيز في الكتابة والسرد مثل بصمة الأصابع لا تتكرر، والقاموس اللغوي عنده غني، يعبر عن شخصيته القارئة المثقفة، فهو يستعين دائما بألفاظ واشتقاقات تستحضر روعة البلاغة وسحر البيان، فيرفد بذلك الحصيلة اللغوية للقاريء والمستمع، هذه اللغة التي استفاد منها كثيرون وأنا منهم.
شكرا للدكتور عمر عبد العزيز القطب اليماني القادم من اليمن السعيد، ليذكرنا بجذورنا الضاربة في التاريخ، ويواصل مهمة الأولين، يعلمنا الحكمة اليمانية، ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا.