الأمير كمال فرج.
غاب "محمد قادر نواز" عدة أيام، فلم أقلق، فتلك كانت عادته، كان قلقًا كعصفور يتقافز حول العش، يطير ليلتقط حبّة ثم يعود، يغيب لعدة أيام، ثم يتصل بي فجأة ويخبرني أنه أمام منزلي، ولكن هذه المرة استبدّ بي القلق، ولا أدري لماذا؟، فبادرت بالاتصال على جوّاله مرة ومرات دون رد، وبعد عدة محاولات ردت علي امرأة على غير العادة، ظننت لأول وهلة أن الرقم خطأ، ولكني علمت وقتها أنها أخته، سألتها: أين نواز؟، فقالت "Nawaz died نواز مات".
مات "نواز" فجأة دون وداع، وهو الرقيق المهذب الذي يحرص على الاستئذان، رحل بغتة، فالموت يجيد المباغتة، يخطف الأحبة من بين يديك، كما تخطف الريح أوراق الشجر.
تعرفت على "نواز" في المركز الإعلامي لـ "إكسبو 2020" في دبي، تصادقنا من الوهلة الأولى، وقتها مدّ يده مصافحًا وهو يقول "محمد قادر نواز"، عندما تأخرت في العمل، وقتها قال "سأنتظرك لنذهب معًا"، ومن هذه اللحظة أصبحنا معًا، وظللنا معًا ستة أشهر ـ فترة المؤتمر ـ، نعمل معًا ونأكل معا ونحضر الفعاليات معًا، فاكتشفت في هذه الشهور الطويلة معدنه الطيب وسجاياه الجميلة.
كنت أعتبر صداقتي معه دليل على نجاح الصداقة بين الثقافات المختلفة، وكنت أرى أن مثل هذه الصداقة في كثير من الأحيان تكون أفضل من الصداقة داخل الثقافة الواحدة.
كان صديقي الهندي يتحدث اللغة الماليالامية، وأنا أتحدث العربية، ولكن اللغة لم تكن حائلًا بيننًا، وكان الحل الوسط أن نتحدث الإنجليزية، ورغم أن إنجليزيته ليست مثالية، كنا نتحدث ونتناقش في كافة الأمور، الثقافة والسياسة والحياة، وكانت الإنجليزية التي اخترعناها تنتج تراكيب غريبة ومضحكة، كنت أفهم نصف ما يقوله، ولا أفهم النصف الآخر، فنقضي معظم الوقت نكوّن الجمل ونصحّحها ونضحك، وساهم ذلك في تطوير لغتي الإنجليزية، بينما لم أنجح في تعليمه اللغة العربية، وكان ذلك أحد أحلامه الكبرى.
كان "نواز" الوحيد الذي أناديه بـ "صديقي العزيز" لأني بالفعل كنت أعتز كثيرًا بهذا الرجل، فقد كان يجمع مجموعة من الصفات التي قلّ أن توجد هذه الأيام، مثل الطيبة والوفاء والخلق والشهامة، كان نموذجًا للهندي المسلم الذي يتمسك بدينه، في عيونه حزن القرى وهموم الكثير من البسطاء الذين يقودون الركشة الهندية في مومباي وكيرلا، كان يعتصر ألمًا لما يحدث للمسلمين في الهند على أيدي الهندوس، وكثيرًا ما تلقيت منه مقاطع فيديو مؤلمة توثق ما يتعرضون له من انتهاكات على يد زمرة "مودي" الحاكمة.
كنت أناديه دائمًا "صديقي الصحفي والكاتب والناقد والمخرج والممثل.."، لأنه بالفعل كان كل ذلك، كان "نواز" متعدد المواهب، فقد كان مراسلًا لصحيفة هندية اسمها "Metro" تصدر باللغة الماليالامية، والتي يتحدث بها أكثر من 35 مليون إنسان، متوزعين على: كيرالا، لكشديب، كارناتاكا، جزر أندامان ونيكوبار وبين العمال الهنود في الخليج العربي.
ساهم على مدى عشرين عامًا في نقل النشاط الثقافي بالشارقة إلى الملايين عبر تقاريره الصحفية اليومية المطبوعة والمرئية التي ينشرها في صحيفته الهندية، وكان متابعًا نشطًا لجميع الفعاليات الثقافية في الإمارات، مثل معرض الشارقة الدولي للكتاب، ومهرجان الشارقة القرائي للطفل، وأنشطة وفعاليات شرطة الشارقة ، .. وغيرها..، ورغم خبرته الطويلة في الصحافة كان يفرح كالطفل في نهاية كل فعالية عندما يتسلم "شهادة Certificate" .
كان "نواز" يكنّ محبة خاصة للمصريين، وكان يريني صور أبنائه في الهند ويقول "يشبهون المصريين"، ويريني صورة زوجته، ويقول "تشبه المصريات"، كان يفخر دائما بأصدقائه من الجنسيات العربية ومنهم "هيثم" من سوريا، و"عبدالكريم" من مصر، كان عربي الهوى هندي الجنسية.
أتذكر أيامي الأولى في الإمارات، كان "نواز" حاضرًا في كل المواقف، أتذكر عندما استدعت حالتي الصحية عمل أشعة الرنين المغناطيسي، أخذني نواز في سيارته، وذهب بي إلى المستشفى، وظل ينتظرني خارج الغرفة 45 دقيقة وأنا حبيس الجهاز الذي يشبه المقبرة، لقد كان بمثابة الأخ والأهل والعشيرة.
منذ عام، نجحت في استقطابه للكتابة في "الصحافة"، وبدأنا في نشر أخباره الصحفية باللغة الماليالامية، والجميل أن أخباره كانت تحقق دائمًا مشاهدات عالية من قبل الأخوة الهنود.
كان حلم "نواز" أن يصدر صحيفته الخاصة باللغة الماليالامية، واستعان بالفعل بإحدى الجهات لعمل التصميم الخاص بها، ولكن التكاليف أعاقت ذلك، كان يخطط للذهاب إلى الهند الشهر الماضي، وعندما سألته متى سيعود، أكد أنه لن يتأخر، صدقته، ولكن ما حدث أنه ذهب بلا عودة.
كان "نواز" يعشق الصحافة، ويمنحها معظم وقته، رغم أنه لا يجني منها شيئًا، فقد كان يراسل صحيفته الهندية بـ "بلاش"، وكان يملك وكالة صغيرة في عجمان متخصصة في إعداد الديكورات، ونظرًا لأن الصحافة "لا تجلب همّها" كما يقول التعبير الشعبي، كان يفرح عندما تتفق وكالته على عمل.
وفي الشهور الأخيرة كان سعيدًا لاتفاقه على بعض الأعمال عند شخص اسمه "الشيخ سعيد" وكان يتصل بي من حين لآخر فرحًا ليخبرني أنه في الموقع، ومنذ أسابيع اتصل بي فرحًا، ليخبرني أن صديقه السوري "هيثم" سيعود إلى الإمارات لتأسيس شركة.
كان حريصًا على التواصل معي، وإبلاغي بكل تحركاته برسائل صوتية دافئة يبدأها بـلغة عربية سليمة "السلام عليكم"، حتى عندما تتعطل سيارته، كان يرسل لي صورًا لها وهى في الورشة تحت الإصلاح. كان يصرّ على الحضور في الذاكرة، لإحساسه الدائم بأنه سيضطر يومًا للغياب الكبير.
رحل محمد قادر نواز الذي كان يملأ الفضاء بالحب والوفاء وقيم الصداقة الحقًة، وجوهر التسامح الجميل، وتوقفت لأول مرة إشعارات "الوتسآب" التي تعلن عن رسائله الصوتية على مدار اليوم.
قبيل شهر رمضان بيوم واحد دعاني "نواز" أنا وعدد من الزملاء لتناول العشاء في مطعم "كوميدور"، والغريب أنه دعانا جميعًا بالإسم، وكأنه يخطط لحفلة وداع، ورغم الطقس السييء والمياه التي جرفتنا بعيدًا عن المطعم، أصرّ على الدعوة، وانتهى بنا المطاف في مطعم "الكلحة" في مجاز الشارقة، حيث قضينا وقتًا جميلًا، والتقطت لنا هناك صورة جماعية.
أتأمل الصورة، وأتذكر مواقفه الطيبة في كل المواقع والأمكنة، وأدرك أن الحياة رحلة قصيرة جدًا، كل منا ينزل في موعد محدد ومحطة محددة، ويرحل المرء، وتظل ذكراه العبقة وأعماله الصالحة في كل مكان.
رحم الله صديقي الهندي المسلم محمد قادر نواز، وأسكنه فسيح جناته، وجعل صدقه ووفائه وغيرته على الإسلام والمسلمين شفعاء له يوم العرض عليه، إنه تعالى سميع مجيب.