د. يمني طريف الخولي .. جامعة القاهرة.
هذا مثال تطبيقي نموذجي .. لتوظيف مناهج الفلسفة وأساليبها الفعالة, في استكناه ما هو كائن من أجل استشراف معالم ما ينبغي أن يكون. إنه كتاب نحو تأسيس عصر ديني جديد الصادر أخيرا2017, عن دار نيو بوك للنشر للدكتور محمد عثمان الخشت، أستاذ فلسفة الدين والمذاهب الحديثة والمعاصرة، وواحد من أنضر الوجوه المعطاءة في حياتنا الفلسفية الراهنة.
لم يثنه الاضطلاع بأعباء عمله كنائب لرئيس جامعة القاهرة العملاقة عن مواصلة عطائه وإنجاز مشروع يتميز بأنه لا ينصب علي التراث النخبوي، بل علي الواقع الثقافي المتعين المستدعي معالجة نقدية شاملة، ولا ينشغل بالنصوص إلا بقدر ما تتمثل في هذا الواقع وبقدر ما تعين في تحديد بؤر علله وأدوائه التي استفحل أمرها, وبقدر ما تفيدنا في الواقع المنشود.
ومثلما يعمل علي هدم السلبيات، يجد العزم في بناء الإيجابيات التي ينبغي أن تكون، لأن الثورة علي القديم لا تجدي دون بناء الجديد. تنصب العقلانية النقدية في مشروع الخشت علي تعيين مواطن الخلل والقصور فينا, والنقض الشامل لكل تطرف، وبالتالي لكل التيارات الأحادية المولدة للتطرف سواء إرهابية أو غير إرهابية. ثم التربص بأخطر ما تمخض عنه التطرف:
هذا الإرهاب الغشوم الذي لم يعرفه المسلمون الأوائل, قوة باغية منفلتة خارج قواعد الحرب ولا تلتزم بأي أخلاق في المواجهة, إرادة لاعقلانية لاأخلاقية خارجة من متاهات الرفض والكراهية. ومهما دمر الإرهاب وفجر وروع وقتل يظل حفارا لقبره قبل قبور من يراهم خصوما عاجزا عن الفعل والإنجاز.
يوضح الخشت كيف أن القرآن يري الإرهابيين مسرفين في الأرض.. مسرفين في الدماء; وأنهم أصحاب دين الخوارج الذي هو جبر وجبروت وإجبار. أداة فيلسوفنا المكينة لتعيين مواطن أدواء التطرف في هذا المنحدر التاريخي هي اصطناع منهجية التفكيك.. تفكيك خطاب ديني لعقل مغلق يصنع الجمود وذهنية نقلية تعوق التواصل الكفء مع الواقع الحي.
وقد رأي أنه بالتفكيك يكون القضاء علي سجن المذاهب العقائدية والفقهية المغلقة, وفضح معاني وتأويلات أصحاب الكهنوت البشري الملتبس بالمقدس ومقتنصي السلطة المتقنعين بالدين. لا يقتصر الخشت في مشروعه علي هذا الجانب السلبي الذي يروم هدم ومحو السلبيات, بل يتجاوز هذا إلي تأسيس مرجعيات مستجدة ترسم معالم واقع جديد أفضل, يتأتي من تغيير طرائق التفكير ورؤي العالم, واصطناع تعليم منتج لعقول متفتحة, ومنظومة قيمية متكاملة حملها كتابه أخلاق التقدم, في رؤية حضارية شاملة بمعني الكلمة, يقوم فيها الدين والفن والفكر والعلم والتعليم والعمل والقيم والحكم جميعا بالأدوار المتكاملة, فيكون الحصاد الأوفي حقا.
لعل كتاب نحو تأسيس عصر ديني جديد واسطة العقد في هذا المشروع. لاسيما بعد أن تكاثفت أدواؤنا في انفجارات وظهور تطرف ديني متمخض عن الإرهاب.. عن التكفير والتفجير والتدمير. وهذا الكتاب أولا وأخيرا, وفي كلمة واحدة: درس في مواجهة التطرف.
نلاحظ بادئ ذي بدء أن أخطر مواطن الزلل التي تتهدد التفكير والفعل الإنسانيين عامة إنما هو الانزلاق إلي مواجهة الخطأ بالخطأ المضاد, والتطرف بالتطرف المضاد والتعصب بالتعصب المضاد, في دائرة جهنمية لا تنذر بالمخرج أو الخلاص.
الفضيلة الكبري لهذا الكتاب الذي صيغ بأسلوب سلس مطواع ناصع البيان زادته السلامة اللغوية نصوعا وبيانا.. الفضيلة هي الإمساك بالوسط الذهبي الذي يمثل طوق النجاة والمخرج من أحبولة التطرف والتطرف المضاد. ينطلق بلا هوادة ساحقا ماحقا لكل منطلقات التطرف الديني ودعاوي الكهنوت البشري المتسربل بالألوهية, محذرا من أي تهاون في هذا الصدد, مصطنعا أداة علمية منجزة هي كما أشرنا منهاجية تفكيك الخطاب الديني القديم الذي تمخض عن ذاك الخلل الجسيم في التصورات والرؤي.
وفي الآن نفسه ينقض علي تطرف التفكيكية الجذرية في سيولة ما بعد الحداثة الفرنسية التي تهدم كل المرجعيات وتفضي إلي رمال متحركة. تطرف في الجمود هنا وفي السيولة هناك. كلا الطرفان المتقابلان, أو كلا الطرفان, فلسفة للتشظي والهدم والإقصاء, تفضي إلي العدم والخسران.
ضاعت العقلانية النقدية من المتطرفين الدينيين ومن متطرفي العلمانيين ومتطرفي ما بعد الحداثة الفرنسية علي السواء, كلهم شريك في ضياع المعني والرشد وإنسانية الإنسان.. الموجود العاقل.
علي هذا النحو يترسم في كتاب نحو تأسيس عصر ديني جديد طريقا هادفا إلي استئصال شأفة التطرف الغارق في رواسب الماضي وكل ما يتمخض عنه من مزاعم إرهابية تشوه الحاضر وتحاول يائسة أن تغلق أبواب المستقبل, من دون أن ينزلق إلي التطرف المضاد: دعاوي استئصال الظاهرة الدينية المستحيل, أو تحجيمها الخاسر في واقعنا الأنثروبولوجي الذي يسهم الدين بالنصيب الأكبر في تشكيل ثقافته, أي رؤيته للعالم ومنظومته القيمية وطقوسه الاجتماعية, وتضعه الأمم المتحدة في إطار دائرة حضارية تتوسط ثقافات العالم وتوسم بأنها الدائرة الإسلامية. مما يجعل تأسيس عصر ديني جديد وخطاب ديني جديد فرض عين علي المثقفين جميعا).
ـ عن "الأهرام المسائي"
ـ تصوير : أحمد الدسوقي