الرواية الإماراتية في الألفية الثالثة.. رؤى جديدة في الفن
إسلام أبو شكير.
في الحديث عن الرواية الإماراتية لابد دائماً من إشاراتٍ إلى خصوصيةٍ مصدرها ظروف النشأة من جهة، حيث القصر النسبي في التاريخ وذلك قياساً إلى تجارب عربية أخرى قريبة أو بعيدة؛ والتحولات العميقة التي مر بها المجتمع الإماراتي من جهة أخرى، وذلك انطلاقاً من بيئتي الصحراء والبحر وما يميزهما من بساطة وعفوية، وصولاً إلى بيئة المدينة الحديثة وتعقيداتها.
فيما يتصل بالجانب الأول (ظروف النشأة والتاريخ القصير نسبياً) فقد كان من نتائج ذلك أن الروائي الإماراتي وجد نفسه – عن وعي أو غير وعي – ملاحقاً بضغط إثبات الذات، وتأكيد الحضور، فهو - وإن بدأ متأخراً – مطالب بأن يقدم منجزاً يحقق الحد الأدنى من شروط الجودة والتميز. وقد يكون هذا الهاجس وراء ميل الروائي الإماراتي إلى تجنب الطرق الوعرة وما يكتنفها ويتخللها من مغامرات وتحديات، فكانت الأعمال الأولى حذرة في اشتغالاتها واجتهاداتها الفنية، متحفظة في علاقتها بالشكل خصوصاً، حريصة على أن تتحرك ضمن حدود المنطقة الآمنة، ووفق المسارات الواضحة والمحددة التي أسست لها أجيال من الروائيين العرب.
والأكيد هنا أن الروائي الإماراتي قد حقق نجاحاً كبيراً، فخلال أقل من عشرين عاماً أصبحت (الرواية الإماراتية) حقيقة، متجنبة ارتباكات البدايات التي عاشتها الرواية العربية قبل ذلك، فالرواية الإماراتية الأولى على سبيل المثال (شاهندة) لراشد عبد الله النعيمي، والتي صدرت عام 1971، تجاوزت في نضجها ودرجة استيفائها للشروط الفنية الروايات الأولى في البلدان العربية الأخرى، وليس في ذلك امتياز لشاهندة بالطبع، لكن طابعها التقليدي وحرصها على أن تكون بناء على بناء سابق يؤكد أن الهاجس الأساسي هو حجز مساحة ما للرواية الإماراتية على الخارطة الإبداعية العربية، قبل الوصول إلى مرحلة الإضافات النوعية التي تتصل ببنية فن الرواية، والاجتهادات الخاصة التي تتطلع نحو خلخلة المفاهيم المستقرة، وهو ما حققته شاهندة بالفعل، خصوصاً مع تواصل العمل، وظهور أسماء أخرى أغنت المشهد بأعمال تجاوزت شاهندة نفسها.
لقد نجح الروائي الإمارتي إذاً، ووجدنا أنفسنا أمام أسماء كبيرة ومهمة (علي أبو الريش، إبراهيم مبارك، ناصر جبران، أسماء الزرعوني..) وآخرين، وهؤلاء تمكنوا من بناء رصيد معتبر أهّل الرواية الإماراتية لأن تحتل مكانها على الخارطة..
تلك كانت مهمة شاقة تصدى لها الجيلان الأول من الثاني من الروائيين الإماراتيين. والأكيد هنا أن هذا الرصيد الذي قدموه تميز بميله نحو الاستفادة كما ذكرنا مما قدمته الرواية العربية السابقة زمنياً على الرواية الإماراتية، مدفوعين في ذلك بالحرص على تجنب آلام ومتاعب البدايات الصفرية..
لكن ذلك وحده لا يكفي لتفسير ظاهرة الجنوح نحو الأساليب التقليدية المحافظة التي غلبت على مجمل ما قدمته الرواية الإماراتية في تلك الآونة، فالأمر مرتبط كذلك، وعلى نحو وثيق، بطبيعة المرحلة التي عاشها الروائي الإماراتي المؤسّس، وهي مرحلة لا تبعد كثيراً عن مرحلة الارتباط بالصحراء (البداوة) من جهة، وبالبحر (الصيد) من جهة أخرى. أي أن السياق الذي أنتج الرواية الإماراتية الأولى كان بسيطاً إلى حد ما، قياساً على الأقل إلى مجتمعات أخرى في مصر أو الشام أو العراق على سبيل المثال، حيث كانت هذه المجتمعات تعيش مكابدات من نوع مختلف له صلة بالحداثة والعلاقات الأكثر تعقيداً وتركيباً، والناجمة عن التحولات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي عاشتها.
ظهور الرواية الإماراتية ترافق مع إعلان قيام الدولة تقريباً، والحداثة بالنسبة للمجتمع الإماراتي في تلك الفترة كانت حلماً كبيراً، لكنها على أرض الواقع لم تتجسد بعد. كانت هدفاً واضحاً، وكانت الاستعدادات جادة ومحسومة لتحقيق هذا الهدف، لكن العمل بدأ لتوه، وبحاجة إلى جهد مضنٍ وطويل ليتحقق..
لذلك عندما نظر الروائي الإماراتي إلى واقعه يبحث عن مادة أولية يبني روايته منها، لم يجد تلك الحالة المركبة التي تقتضي منه تغييراً جوهرياً في بنية الرواية، بحيث يجد نفسه مضطراً إلى اجتراح تقنيات وأدوات تعبير وأساليب فنية جديدة وغير مألوفة، فاكتفى بالتناول التقليدي لموضوعاته، وبالمقاربات الهادئة التي تستفيد من نجاحات الرواية العربية السابقة.
هذا عن الجيلين الأول والثاني من الروائيين الإماراتيين، لكن التجربة الإماراتية قامت أساساً على حلم اللحاق بالعصر، وتقديم نموذج تتحقق فيه شروط الحداثة في أقصى درجات تجليها، وكان السعي لتحقيق هذا النموذج متسارعاً ومتواصلاً، فإذا ما دخلنا الألفية الثالثة وجدنا أنفسنا أمام حالة مختلفة كلياً عما كانت عليه الدولة في لحظة التأسيس.
لقد بلور المجتمع الإماراتي الآن مشروعه، وتقدم به خطوات جعلت منه مشروعاً واثقاً مستقراً قادراً على أن ينافس، أو يواكب على الأقل، وكان من الطبيعي أن يقود ذلك إلى تأثيرات على التجربة الإبداعية عموماً والأدبية الروائية خصوصاً، لا سيما أن جيلاً كاملاً ينتمي إلى هذه المرحلة انتماء عضوياً، أي أنه ولد ونشأ في ظلها، ولم يعايش مراحل أخرى سبقتها إلا من أطرافها فقط.
يؤكد ذلك ما تشهده حركة الكتابة الروائية اليوم من انتعاش على مستوى الكم على الأقل، وبأقلام شباب تبدأ أعمارهم بالعشرين، أي أنهم نتاج الثقافة الجديدة حقاً. عشرات الأعمال الروائية تظهر كل عام، وبغض النظر عن القيمة الفنية لهذه الأعمال (وهي متفاوتة حتماً) فإن الظاهرة تحمل دلالات مهمة، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة القضايا المعالجة، وهي في معظمها ابنة المرحلة الراهنة، ونتاجها.
فنياً، تخفف الروائي الإماراتي من جيل الألفية الثالثة من ضغط المساعي نحو إثبات الحضور، باعتبار أن الجيلين السابقين أنجزا هذه المهمة، وأصبحت الرواية الإماراتية جزءاً من الرصيد العام للتجربة العربية، فبات متاحاً لهذا الجيل أن يتفرغ لاشتغالات أخرى تمسّ التقنيات والأساليب وأدوات التعبير، ووجدنا أنفسنا أمام نماذج تتوافر على رؤى فنية مغايرة، فيها الكثير من التجريب، والمغامرة، والبحث، على تفاوت في المستويات طبعاً، واختلاف في حجم النتائج التي تمخض عنها هذا البحث.
لم تعد الرواية موضوعاً فقط، بل أصبحت مجالاً لتوظيف تقنيات وأساليب غير مطروقة، في محاولة للوصول إلى عمق هذا العالم الذي يعيشه الروائي، والمختلف جذرياً عن العالم في المرحلة السابقة. فالروائي الإماراتي من جيل الألفية الثالثة لم يعش ظروف الأجيال السابقة عن قرب، وبشكل مباشر. وعلاقته بالصحراء والبحر (الموضوعين الرئيسين اللذين هيمنا على مجمل المنجز الروائي السابق) اختلفت كلياً، بحكم اختلاف الظرف الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. والمشكلات والتحديات اختلفت بدورها، كما اختلفت العلاقة بالعالم المحيط.
نحن أمام مدن عملاقة، تعج بمظاهر الحداثة وما بعدها، لا على مستوى البناء فقط، ولا على مستوى التكنولوجيا، أو الخدمات، أو أي من المعطيات المادية، بل على مستوى العلاقات أيضاً، والفكر، والثقافة، والحساسيات، والتطلعات، والأحلام، والتحديات.
يضاف إلى ذلك الاحتكاك العميق واليومي بالثقافات الأخرى، سواء نتيجة التنوع الكبير في هذا المجال داخل المجتمع الإماراتي، أو نتيجة سياسة الانفتاح التي انتهجتها الإمارات، أو نمو الطبقة المتعلمة والمثقفة التي تقرأ وتتابع، أو ثورة الاتصالات وما أحدثته من تغييرات.. كل ذلك ساهم في إعادة تشكيل وعي الروائي الإماراتي الشاب، (كما أعادت تشكيل وعي الشباب العربي عموماً)، وعززت من شعوره بأنه جزء من هذا العالم، فانخرط في تفاصيله كلها، وأخذ يتفاعل مع قضاياه وظواهره ومشكلاته.
وكان من أبرز تجليات هذا التفاعل ظهور روايات تبتعد عن الأشكال السردية التقليدية، وتحاول أن ترتاد مناطق وأفاقاً جديدة، لا من منطق الانبهار بما تحقق في الثقافات الأخرى، ولكن نتيجة الإحساس بأن قضايا الواقع الجديد تحتاج إلى أدوات جديدة هي الأخرى كي يتم فهمها من العمق.
فنياً، تخفف الروائي الإماراتي من جيل الألفية الثالثة من ضغط المساعي نحو إثبات الحضور، باعتبار أن الجيلين السابقين أنجزا هذه المهمة، وأصبحت الرواية الإماراتية جزءاً من الرصيد العام للتجربة العربية، فبات متاحاً لهذا الجيل أن يتفرغ لاشتغالات أخرى تمسّ التقنيات والأساليب وأدوات التعبير، ووجدنا أنفسنا أمام نماذج تتوافر على رؤى فنية مغايرة، فيها الكثير من التجريب، والمغامرة، والبحث، على تفاوت في المستويات طبعاً، واختلاف في حجم النتائج التي تمخض عنها هذا البحث.
لم تعد الرواية موضوعاً فقط، بل أصبحت مجالاً لتوظيف تقنيات وأساليب غير مطروقة، في محاولة للوصول إلى عمق هذا العالم الذي يعيشه الروائي، والمختلف جذرياً عن العالم في المرحلة السابقة. فالروائي الإماراتي من جيل الألفية الثالثة لم يعش ظروف الأجيال السابقة عن قرب، وبشكل مباشر. وعلاقته بالصحراء والبحر (الموضوعين الرئيسين اللذين هيمنا على مجمل المنجز الروائي السابق) اختلفت كلياً، بحكم اختلاف الظرف الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. والمشكلات والتحديات اختلفت بدورها، كما اختلفت العلاقة بالعالم المحيط.
نحن أمام مدن عملاقة، تعج بمظاهر الحداثة وما بعدها، لا على مستوى البناء فقط، ولا على مستوى التكنولوجيا، أو الخدمات، أو أي من المعطيات المادية، بل على مستوى العلاقات أيضاً، والفكر، والثقافة، والحساسيات، والتطلعات، والأحلام، والتحديات.
يضاف إلى ذلك الاحتكاك العميق واليومي بالثقافات الأخرى، سواء نتيجة التنوع الكبير في هذا المجال داخل المجتمع الإماراتي، أو نتيجة سياسة الانفتاح التي انتهجتها الإمارات، أو نمو الطبقة المتعلمة والمثقفة التي تقرأ وتتابع، أو ثورة الاتصالات وما أحدثته من تغييرات.. كل ذلك ساهم في إعادة تشكيل وعي الروائي الإماراتي الشاب، (كما أعادت تشكيل وعي الشباب العربي عموماً)، وعززت من شعوره بأنه جزء من هذا العالم، فانخرط في تفاصيله كلها، وأخذ يتفاعل مع قضاياه وظواهره ومشكلاته.
وكان من أبرز تجليات هذا التفاعل ظهور روايات تبتعد عن الأشكال السردية التقليدية، وتحاول أن ترتاد مناطق وأفاقاً جديدة، لا من منطق الانبهار بما تحقق في الثقافات الأخرى، ولكن نتيجة الإحساس بأن قضايا الواقع الجديد تحتاج إلى أدوات جديدة هي الأخرى كي يتم فهمها من العمق.
في هذه الورقة سنتوقف عند نموذجين من نتاج هذا الجيل، هما رواية (غرفة واحدة لا تكفي) لسلطان العميمي، ورواية (مملكة النحل في رأسي) لمريم الساعدي، وسنحاول أن نتوقف بشكل خاص عند الجانب الذي برز فيه ميل كل من الروايتين نحو الخروج على القوالب الكلاسيكية في السرد، وتقديم تجربة يمكن القول إنها مختلفة لما يتخللها من تجريب على مستوى البنية، واللغة، والفضاء، وعلاقات داخلية تنظم حركة الحدث، ونمو الشخصيات، وما إلى ذلك من عناصر.
غرفة واحدة لا تكفي ـ سلطان العميمي
ما يلفت الانتباه في رواية العميمي هو بنيتها المغايرة إلى حد ما، وذلك بالمقارنة مع التجربة الروائية الإماراتية السابقة، فسلسلة الأحداث في الرواية تغطي مساحة زمنية واسعة تبدأ بمرحلة ما قبل النفط، حيث المجتمع البدوي البسيط، بثقافته وعلاقاته والظروف البيئية التي يعيشها، والتحديات التي يواجهها، والصراعات التي يخوضها.. وتنتهي في مرحلة الحداثة أو ما بعدها، حيث المجتمع المدني المنخرط في أحدث قضايا العصر قيماً ومظاهر وتعقيدات.
وفي المعالجة فإن (غرفة واحدة لا تكفي) تفرط هذه السلسلة المتصلة، وتختار منها اللحظات المفصلية التي تخدم الفكرة، واعتمدت في ذلك على تقنية توازي الأزمان. حيث يجد القارئ نفسه موزعاً في اهتمامه بين زمنين مختلفين تتتابع أحداثهما بالتوازي، وهو يتنقل بينهما وفق إرادة الراوي، إذ يأخذه الراوي في موقف من المواقف إلى الماضي البعيد الذي تهيمن عليه حكاية قرواش الأول وما عاشه من صراعات ومغامرات في الصحراء، ثم يجد نفسه في لحظة أخرى داخل غرفة مقفلة في أحد الفنادق الحديثة مع قرواش الرابع وحالة العزلة التي يكابدها في هذه الغرفة. ثم يرتد الزمن أخرى إلى الماضي، ليعود بعدها إلى الحاضر، ثم إلى الماضي، وهكذا..
هذه التقنية التي يتناوب فيها الزمنان كان لها أثر بالغ في تخليص الرواية من الزوائد التي يفرضها رصد الأحداث في سيرورتها الخطية المتتابعة، إذ أصبح من الممكن الاكتفاء بما هو وظيفي يخدم الفكرة العامة للعمل، دون التورط في تفاصيل ومواقف فائضة عن الحاجة، ويمكن أن ترهق العمل، وتؤدي به إلى الترهل كما هو الحال في كثير من الروايات التي التزمت بالسرد الخطي التقليدي.
واستكمالاً وارتباطاً بتقنية (توازي الأزمان وتداخلها) فإن رواية (غرفة واحدة لا تكفي) تستثمر في الكتلة الطباعية، وتوظف الإمكانات التي يتيحها التنويع في الخطوط وأنماط الطباعة لإيصال الفكرة، إذ يحاول العميمي في هذا العمل أن تظل عملية التمييز بين أزمان روايته قائمة، بحيث لا يشعر القارئ بالضياع، فالفكرة هنا ليست في خلط الأزمان ومحو الخطوط الفاصلة بينها، بل في ضفر الأزمان مع بعضها البعض، وإقامة عالم تسير في هذه الأزمان بموازاة بعضها، دون أن يفقد أي زمن استقلاله ووحدته ووجوده الخاص به.
ولذلك نجد أن الرواية موزعة على شكل كتل تتناوب في الظهور، فهناك الزمن الماضي الذي يظهر على الورق بخط عريض، وهناك الحاضر الذي يظهر بخط رفيع.. والأمر هنا ليس مجرد استعراض مجاني فائض يمكن الاستغناء عنه، لكنه توظيف ضروري ومؤثر، وشديد الارتباط بعالم الرواية.
مع هذه التقنية يصل التجريب في رواية العميمي درجة قصوى تكاد تكون غير مسبوقة في الرواية الإماراتية، إذ تجاوز عملية الاشتغال على البنية الداخلية للنص، إلى الاشتغال على الوسيط الذي ينقل هذه البنية إلى القارئ، وهو الخط، أو الطباعة. ويمثل ذلك جانباً من جوانب الوعي الفني الجديد الذي بدأنا نتلمس ملامحه منذ أثبتت الرواية الإماراتية ذاتها، وأسست لحضورها عبر الجيلين الأول والثاني من الروائيين.
ولا تتوقف حدود المغامرة عند الشكل أو الجانب التقني فقط، بل تتجاوزها إلى الموضوعات والقضايا، وذلك بحكم الواقع المتغير الذي وجد الروائي الإماراتي نفسه بمواجهته. جزء كبير من هذه القضايا نجده ماثلاً في رواية (غرفة واحدة لا تكفي)، ومن ذلك:
1- الوحدة / العزلة:
أحداث الرواية تكاد لا تتجاوز حدود غرفة صغيرة في فندق. وشخصياتها تعيش عالمها الخاص الضيق الذي لا تتواصل فيه إلا مع ذاتها. والعزلة بطبيعة الحال هي أهم وأوضح ما يعيشه الإنسان المعاصر اليوم، رغم كل ما يقال عن سقوط الحواجز، وتطور وسائل التواصل والاتصال.
تبدأ الرواية بمشهد يستيقظ فيه البطل ليجد نفسه في مكان مغلق غريب لا يعرف كيف وصل إليه. غرفة في فندق، مقفلة، تنعدم فيها أية إمكانية للتواصل مع العالم الخارجي.
تقع عينا البطل على ثقب القفل في الباب، ومنه يحاول الإطلال على العالم الخارجي، ليكتشف أن هذا العالم ليس سوى غرفة أخرى شبيهة بغرفة بيته، حيث المكتبة نفسها، وشاشة التلفزيون نفسها، بل حيث هو نفسه، بملامحه، وملابسه، وعاداته اليومية. فالخروج من العزلة إذاً كان فعلاً وهمياً، لأنه سرعان ما يتبين أن هذا الآخر (شكلاً) هو الذات (حقيقةً وواقعاً).
2 - تشظي الذات:
لا يساور القارئ الشكُّ منذ البداية في أن تعدد شخصيات الرواية مجرد وهم، وأن الموقف لا يعدو كونه انعكاساً لامتناهياً للصورة على مرايا متقابلة.
يتأكد ذلك من خلال الأسماء التي أطلقها البطل على ذاته وعلى الذوات الأخرى: قرواش الأول، وقرواش الثاني، وقرواش الثالث، وقرواش الرابع.. قرواش إذاً هو البطل، وهو واحد في النهاية، لكنه مستنسخ، بحيث تكون الفروق بين النسخة والأخرى طفيفة إلى الحد الذي لا يسمح بإطلاق أسماء خاصة على كل نسخة، فكان الاكتفاء بالترقيم فقط.
وغني عن القول أن البطل بتشظياته وتعدد أنواته هذه ليس في الحقيقة سوى الإنسان المعاصر الوحيد والمعزول. الإنسان داخل قوقعته المغلقة، وقد انبتت جميع الصلات بينه وبين شركائه على هذه الأرض، فلم يبق سوى أن يوجد بنفسه شركاءه، وهم ذواته، أو الكيانات الأخرى التي تسكنه.
3 - التلصص:
تعد ثيمة (التلصص) واحدة من أفدم الثيمات التي عالجها الأدب، وفي الفترة الأخيرة التي تنتمي إليها رواية (غرفة واحدة لا تكفي) أصبح (التلصص) ظاهرة يحتك بها الإنسان في كثير من تفاصيل يومه، خصوصاً مع التطور التكنولوجي المذهل الذي أتاح للإنسان أن ينفذ إلى خصوصيات الآخرين على نحو من السهولة لم يكن متاحاً من قبل.
نحن نتلصص على الجميع، والجميع يتلصص علينا. لكن التلصص هنا أخذ منحى آخر، حيث جعل منه الكاتب فعلاً رمزياً يحيل إلى نوع من الرغبة في استكشاف العالم الداخلي للذات، أو نوع من الرغبة في قراءة أسرار الذات والكشف عن مكوناتها العميقة. فهو انكفاء إلى الداخل، لأنه لم يأخذ مساره الطبيعي متجهاً نحو الآخر المختلف والمستقل، بحكم أن هذا الآخر الذي يمكن التواصل معه غائب أصلاً، أو أن قنوات التواصل نفسها كانت مغلقة، مما أوجب على الشخص أن يبحث عن مسار بديل، فكان هذا الاتجاه إلى الذات نفسها.
4 - البيئة / الخلفية:
الرواية مثال على الكتابات التي تحاول الانطلاق من أسر البيئة التقليدية (البحر / الصحراء)، باتجاه بيئة المدينة التي تهيمن اليوم لا بتفاصيلها الجغرافية والمعمارية الشكلانية فقط، بل كذلك بعلاقاتها الاجتماعية وأنماط الحياة التي تفرضها، والمشكلات التي تفرزها.
وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن تدور أحداث الرواية داخل غرفة في فندق، فالفندق يمثل أحد أبرز رموز المدينة المعاصرة، غير أن الكاتب عمل - مع ذلك - على (تبييء) عمله عبر حكاية موازية هي حكاية (قرواش الأول) ورحلة التيه التي كابدها، وذات الطابع الأسطوري. لكن ذلك لم يكن تراجعاً من الكاتب عن فكرته الأساسية، بل كان تأكيداً لها، وإبرازاً لحدة الفجوة التي حدثت بين الإنسان وماضيه. فقرواش الأول كان يعيش على مساحة مفتوحة من الأرض ليس لها حدود، ويعاين خبرات وتجارب شديدة الغنى، في حين يعيش قرواش الحفيد ابن اليوم سجين غرفة صغيرة في فندق، لا يرى سوى ذاته، ولا يخاطب إلاها.
5 - الثقافة المعولمة:
تحفل الرواية بإشارات كثيرة إلى روايات وأفلام وأعمال أدبية وفنية عالمية. يحدث ذلك مع كل أزمة يعيشها البطل في سجنه داخل غرفته في الفندق. واستدعاؤه لهذه النماذج يعبر عن المشترك الإنساني الذي يجمع بين سكان هذه الكوكب، فما يعيشه ابن دبي اليوم لا يختلف عما يعيشه ابن لندن أو نيويورك إلا في التفاصيل الصغيرة غير المؤثرة، أما الجوهر فواحد مشترك.
تشير عملية الاستشهاد المتواصل بنماذج من الأدب والفن إلى أن شخصية الإنسان المعاصر - بحكم عزلته - لم يعد بمقدورها أن تثري تجربتها وخبرتها في الحياة عبر المعايشة الواقعية، بل عبر القراءة بدلالتها الواسعة التي تعني قراءة الكتب أو مشاهدة الأفلام أو تصفح مواقع التواصل الاجتماعي أو سواها.. نحن اليوم نكوّن خبراتنا دون أن نبارح مقاعدنا الوثيرة في منازلنا أو مكاتبنا. أي أننا نتاج ثقافة ولسنا نتاج حياة.
مملكة النحل في رأسي ـ مريم الساعدي
بعد تجربة مهمة ومؤثرة في مجال القصة القصيرة تقدم مريم الساعدي روايتها الأولى (مملكة النحل في رأسي 2019). وقد يكون من الضروري هنا أن نربط بين منجز الساعدي في القصة القصيرة، وبين تجربتها الجديدة في الرواية، وذلك لأسباب منها أن الساعدي لم تخرج كثيراً عن عالم القصة، من الجانب التقني على الأقل، غير أنه لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن الالتصاق بعالم هذا الفن لم يلحق أي ضرر ببناء الرواية، بل ربما كان هو بالذات مظهراً من مظاهر المغايرة، وخرق ما هو تقليدي، والسعي نحو شكل مختلف، يحاور ويتفاعل مع جنس أدبي آخر له طبيعته الخاصة وقوانينه الداخلية التي تميزه عن سواه.
تعتمد رواية (مملكة النحل في رأسي) بنية فنية عنقودية، إذ تتكوّن من مجموعة لوحات ومشاهد ومواقف صغيرة يتراوح طول كل منها بين صفحتين وأربع صفحات أو أكثر قليلاً في بعض الحالات. ولكل من هذه الوحدات الصغيرة عنوان مستقل: (صبح الأحضان، شباب دائم، ضباب، عسل الحياة، صورتي الظاهرية... إلخ).
وسريعاً سيتكون لدى القارئ انطباع أولي، لكنه واضح، بأن ما يتعامل معه هو مجموعة من القصص القصيرة، وليس رواية، ذلك أن كل فصل (إذا صحت تسمية هذه اللوحات أو المشاهد فصولاً) له وجوده الخاص القائم بذاته، فالأمكنة متغيرة، وكذلك الأحداث، والموضوعات، وأشكال الصراع، وسواها من العناصر السردية، ويعمل هذا كله على تعميق الإحساس باستقلالية الفصول عن بعضها البعض، وتعزيز القناعة بأن تجنيس الكتاب على أنه رواية، فيه تجاوز غير مبرر.
غير أن ذلك كله سيتغير، وستثبت (مملكة النحل في رأسي) انتماءها إلى فن الرواية بجدارة وقوة، ذلك أن العلاقات التي بدت خفية في البدايات بين الفصل والآخر ستبرز على نحو أكثر قوة ووضوحاً مع تقدم العمل إلى الأمام، وسيظهر أن هذه الأجزاء التي ظنناها معزولة عما سبقها أو تلاها، هي مكونات صغيرة تعمل الكاتبة على موضعتها ضمن مساحة العمل، دون أن يتبين الغرض منها، أو وظيفتها، أو ماذا يمكن أن تضيف، لكن مع توالي ظهور هذه الأجزاء، ستتجلى اللوحة كاملة، متماسكة، وسيتبين القارئ أن تلك الأجزاء ما هي إلا حبات في العنقود الكبير، وأن العنقود هو الغاية التي كانت تتطلع الساعدي إليها منذ اللحظة الأولى، فلم يكن الغرض هو الجزء الصغير لذاته، بل لما يمكن أن يضيفه فيما بعد، ولما سيسهم به في عملية اكتمال اللوحة، أو نضجها.
فصول الكتاب ليست قصصاً قصيرة، لكنها أجزاء وتفاصيل لا بد من الانتظار إلى أن تكتمل ليتبين أنها صورة امرأة، أو سيرة امرأة، تعيش حالات من الوحدة والاغتراب. صدامات مستمرة مع العالم الخارجي بصغائره ومكائده وحروبه وما فيه من سطحية وابتذال في كثير من الأحيان. خيبات. أحلام. حب. غضب. انكفاء. مواجهة.. لكن المرأة تبقى قوية مع ذلك. عالمها الداخلي يظل على صفائه ونقاوته..
هذه التفاصيل الصغيرة التي تعرضها الرواية على شكل وحدات منفصلة، لها وظيفة محددة، وهي أن تتجاور، وأن تأخذ مواقعها على رقعة العمل، وشيئاً فشيئاً سيظهر أن موقعها على الرقعة لم يأت اعتباطاً، وأن ثمة نظاماً هندسياً محكماً هو الذي يحدد لكل وحدة موقعها، وحجمها..
وعي فني مختلف تقدمه (مملكة النحل في رأسي)، وهو وعي ما كان له أن يظهر على هذا النحو إلا مع مريم الساعدي، لا بشخصها، ولكن بوصفها أحد أبناء هذا الجيل الذي ينتمي إلى ظرف خاص مختلف عما عايشه الجيل السابق عليها.
وبالطبع فإن القضايا التي طرحتها (مملكة النحل في رأسي) لها خصوصيتها أيضاً، فنحن في مواجهة مع مشكلات تنتمي إلى هذه اللحظة حقاً، تماماً كما كانت المشكلات التي عالجتها رواية الجيل السابق تنتمي إلى لحظتها هي الأخرى (البحر، الصحراء، النفط، المرأة، المجتمع..). مع مملكة النحل في رأسي كما مع كثير من روايات الألفية الثالثة التي كتبها روائيون من أبناء هذه الألفية، نجد قضايا العزلة، والغربة، وصراعات العمل، وقلق المستقبل، والهوية، والوجود، والثقافة الكونية، والزمن.. وسواها مما لم يكن مطروحاً من قبل في المراحل السابقة..
غير أن الأهم من هذا كله هو الجانب الفني التقني. فالرواية (مملكة النحل في رأسي) تطرح نفسها بأدوات مختلفة، وأساليب مغايرة، وقد تلجأ أحياناً إلى نوع من أنواع المغامرة، في محاولة لمقاربة حالات لا يمكن مقاربتها إلا بهذه الطريقة..
هذا النزوع نحو التجريب يجسده حرص (مملكة النحل في رأسي) على تفتت الحكاية إلى وحدات شذرية متناهية الصغر، ثم إعادة موضعة كل وحدة في مكانها، إلى أن تكتمل الصورة.. تماماً كما هو حال بطلة العمل التي تبدو ممزقة من الداخل، ضائعة، مشتتة، موزعة بين أحاسيس مختلفة متناقضة..
وتذهب الساعدي أبعد من ذلك في نزوعها نحو التجريب، بتوظيف العناوين الفرعية، فيتحول عنوان الفصل أحياناً إلى نص قائم بذاته، كما هو الحال مع الفصل الأول الذي حمل عنوان (من يصلح غطاء غسالة مكسوراً؟ وماذا يسمون مصلح الصنابير؟ وهل يجب أن أشدّ الستارة العالقة؟ أو محاولة تأجيل الانتحار). كل هذا العبارة الطويلة هي عنوان فرعي لأحد فصول الرواية، ومثله عنوان (شقة للإيجار في أبوظبي، أو أين ابن الجيران؟)، وعنوان (شيطان الكلام الملتوي المتحول، أو مرحلة التنهد الجوفي) أو (هل تنام الطيور مفتوحة العينين)، وهناك أمثلة أخرى لعناوين بهذا الشكل..
يمكن تفسير هذه الظاهرة تفسيرات كثيرة، لكن هذا ليس مهماً. المهم هو ما تشير إليه وتكشف عنه من نزوع نحو الخلخلة والمغايرة وتجريب أدوات جديدة على المستوى التقني، وهذا ما أردنا تأكيده في هذه الورقة، من أن رواية الألفية الثالثة لم تعد همومها مقتصرة على المشكلات التي يفرضها الواقع، بل تجاوزت ذلك باتجاه الاشتغال على الفن نفسه، وعلى أداة التعبير لا بوصفها وسيلة، بل باعتبارها قيمة تستحق أن يكون لها نصيب من الاهتمام.
الخلاصة
يمكن التأكيد بعد هذا كله أننا إزاء توجه جديد في الرواية الإماراتية أسس له جيل من الكتاب عايشوا التغيرات التي مر بها المجتمع الإماراتي والعالم كله في الألفية الثالثة، وخبروها، وتفاعلوا معها، وهي في ذلك تحمل قيمة كبيرة، لأنها تؤسس وتمهد، لكن قيمتها لا تقتصر على ذلك، فثمة وعي فني يتسم بالكثير من النضج، وقد تجلى ذلك من خلال المهارات الملحوظة في الاشتغال على بعض التقنيات الصعبة مثل الحكاية والحكاية الموازية، أو الارتدادات على أكثر من مستوى، أو التقطيع والانتقال عبر الأزمنة والأمكنة، أو المزاوجة بين أكثر من جنس أدبي أو كتابي كالرواية واليوميات والتاريخ والقصة القصيرة والشعر، إضافة إلى محاولة اللعب على العناوين، وتوظيف الكتلة الطباعية بسوادها وبياضها وخطوطها وتوزيعها..
كل ذلك يؤشر إلى أن الرواية الإماراتية تجاوزت التحديات الأولى التي فرضتها الرغبة في إثبات الذات، باتجاه مرحلة أخرى فيها وعي وطموح وتطلع نحو الاجتهاد والإضافة، الأمر الذي يعول فيه كثيراً على جيل يمتلك حساسية مختلفة، ووعياً مختلفاً، ونظرة مختلفة إلى الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــ
* قدمت هذه الدراسة في ندوة "الرواية الإماراتية من سرد الصحراء والماء إلى سرد الإنسان" التي أقامتها دائرة الثقافة في الشارقة في 13 /9 /2021
مواقع التواصل الاجتماعي مواقع تجسس تبيع بيانات المستخدمين
نعم
69%
لا
20%
لا أعرف
12%
|
المزيد |